الأهرام لن ترحل

 خسرت الأوساط الثقافية العربية برحيل محمد حسنين هيكل، مفكراً سياسياً وصحفياً موسوعياً، وملكة لغوية طاعت لها مفردات اللغة العربية وتراكيبها، كتابة وشفاهاً.

ولد هيكل في 23 كانون الأول(ديسمبر) 1923 في محافظة القليوبية، ثم انتقل مع أهله إلى القاهرة وسكن في حي الحسين. أراده والده شيخاً، فأخذه إلى الأزهر، بينما فضّلت والدته أن يدرس في كلية التجارة، أما هو فكان يرغب أن يصبح طبيباً، لكن أقداره قادته ليكون من أبرز الصحفيين العرب، ومن أهم صانعي القرار السياسي في مصر في فترة حكم عبد الناصر والسنوات الأولى من حكم السادات، إلى أن اختلفا عام 1974.

أخذ عن والدته قدرتها على السرد والحكي، كما أجاد اللغة الإنكليزية منذ صغره، ارتبط بالقراءة والمطالعة، فقرأ كتب مكتبة خاله.

ما هي المؤهلات التي جعلت من هيكل مؤسسة صحفية، وأهم صحفيّ في تاريخ الصحافة العربية؟

ثقافته الواسعة المتنوعة، مخالطته لأهم القيادات السياسية في مصر والعالم، موهبته اللغوية، قدرته على التحليل والتركيب، نظرته الكلية إلى الأمور التي يعالجها، مساهمته في الصحافة المصرية متدرجاً في المواقع، من مراسل إلى مدير عام لمؤسسة الأهرام التي أنشأ فيها مركزاً استراتيجياً للبحث.

اعتمد هيكل على مجموعة من خيرة أبناء مصر ومثقفيها، فكان في الطابق السادس من مبنى الأهرام توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، لويس عوض، عبد الرحمن الشرقاوي، حسين فوزي وغيرهم من القوى الناعمة في مصر، الذين تركوا بصمات واضحة وكتبوا حروفاً مضيئة في الثقافة العربية كفيلة بتخليد أسمائهم.

عمل هيكل عشر سنوات داخل مطبخ السلطة المصرية، وواحداً وأربعين عاماً خارجه.. ألّف مجموعة من الكتب، لعل أكثرها إثارة وشهرة كتابه (خريف الغضب).

مهما كان موقفنا من هيكل وكتاباته وسيرة حياته واجتهاداته وآرائه السياسية وتحليلاته الفكرية، فإننا لا نملك إلا الإعجاب به، بالتزامه، بدأبه، باجتهاده، بصبره وحماسته في جمع الوثائق وتحقيقها، إنه مؤسسة اسمها (هيكل).

في سنواته الأخيرة، ترك الكتابة التي أرهقته وبدأ سلسلة لقاءات متلفزة قدم فيها خلاصة فكره واستنتاجاته. ما يميز هيكل كمثقف شفوي، قدرته المذهلة على صك الجمل والتراكيب التي تأتيه بعفوية، فكانت اللغة طيّعة بين يديه يشكّلها وفق أفكاره، مستخدماً يديه وكل ما يحمله وجهه من طاقات تعبيرية (لغة الجسد).. فهو جاهز للإجابة عن أي سؤال يوجه إليه بعفوية وقوة إقناع، يعود ذلك إلى غزارة المعلومات، ونفاذ الفكر والقدرة على التحليل والنظرة الكلية الشمولية إلى المسائل المعالجة.

كان هيكل جدلياً في منطقه، وامتاز بقدرة يحسد عليها، على الربط بين الكل والأجزاء المكونة له والمتفاعلة معه، وفق عقلانية واضحة تتعامل مع الأحداث انطلاقاً من قوانينها الخاصة، لا من رؤيته لها، التي غالباً ما تتحكم بها العواطف.. هيكل من الذين أطلقوا العنان لعقلانيته المؤسسة على أحدث منجزات العلم والمعرفة.

في لقاءاته الشفوية حكائية جلية، فهو سارد بارع، اكتسب قدرة على شدّ المتلقي وأسْره، إذ يصعب عليك الفكاك من شباك لغته (مفردات وجملاً)، كما أنه يفتح لك آفاقاً واسعة رحبة للمناقشة والتحليل.. بهذا الشكل السردي الحكائيّ امتاز هيكل مثقفاً شفوياً مدهشاً.

مواقف هيكل السياسية، آراؤه، اجتهاداته، كلها تبقى موضوع جدل ونقاش، أما سجلّ حياته العامر بالتنوع وتعدّد المعارف وتداخل الثقافات، فهو ما تركه لنا قدوة ومثالاً.. خلاصة تجربته: التنوع والشمولية، الانفتاح على المختلف، والتعامل الخلاق مع الوقائع، والتجرد من المسبقات والمطلقات في مناقشة القضايا السياسية والفكرية، ويكفيه فخراً أنه من أوائل من قال عن سلطة مبارك: (سلطة شاخت في مواقعها)، ومن أقواله:(على أي وطن أن يتحاور مع نفسه قبل أن يتحاور مع الآخرين ومع العالم)، (الطريق إلى الوعي هو المعرفة، والأمم لا تعتزل والشعوب لا تستقيل)، (لحظتنا الراهنة تضيف قلقاً على قلق، وكل ما حولنا سيئ)، (إننا نعيش لحظة خطرة، لكنها لا تدعو لليأس).

كان موقفه واضحاً من ثورة 25 يناير في مصر، ومن استلام (الإخوان المسلمين) السلطة في أهم بلد عربي، أما موقفه من ما يسمى (الربيع العربي) فكان جليّاً ولم يكن مفاجئاً من مفكر ورجل سياسة خبير بخوافي الأمور.. أما تصدّيه لمرسي وعشيرته، وبخاصة عندما دعا إلى الجهاد ضد سورية، فقد دفع ثمنه غالياً (حرق دارته ومكتبه في برقاش، بما فيها من وثائق تاريخية قيّمة وذكريات (ذاكرة المكان).

دافع طيلة حياته عن قناعاته بشجاعة، وحافظ على ثوابته في سياق متغيرات السياسة وتحولاتها، إنه لغة مضيئة وأسلوب حياة ومدرسة في الصحافة.

العدد 1104 - 24/4/2024