لماذا تعنينا فلسفته اليوم؟…..ابن رشد.. واستيعابه لمشاكل عصره ونظرته الشاملة إلى الحياة والإنسان والعقل والمجتمع

 لأننا نحن العرب نواجه اليوم مشاكلنا في وضع لا يتسم بالتحديد الدقيق الشامل لأبعاد الصراع التاريخي الحضاري الذي يمثل كما يقال اليوم إشكاليتنا، إن قراءة ابن رشد اليوم لا تلغي تخلفنا ولكنها تدعونا إلى القول بأن تجاوز التخلف والعجز والتمزق والظلام ليس أمراً مستحيلاً، وهي تربطنا بالماضي بل إنها تشدّنا إليه وتضعنا وجهاً لوجه أمام مشاكلنا الراهنة، وتدفعنا إلى أن نعين بدقة دور ابن رشد في الصراع التاريخي الذي نشب في عصره وعصور أوربا اللاحقة، وإلى أن نتعرف على مدى استيعابه لمشاكل عصره وعلى أهمية نظرته الشاملة إلى الحياة، والإنسان والعقل والمجتمع، وتحفزنا على دراسته وتقديمه وتعيين وظيفته الفلسفية في عصره والعصور اللاحقة بما فيها خطابه لنا الآن.

هذا جزء من مقدمة بحث هو آخر ما خطته يد المؤلف د.نايف بلوز، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، قبل وفاته في 25/8/1998 (العقلانية في فلسفة ابن رشد) وهي المحاور التي دار حولها نقاش حول فيلسوف قرطبة، وأول ما يراه الباحثون أنها فلسفة عقلانية خرجت عن أطرها الأفلاطونية والأرسطية على حد سواء، إذ أفلتت من شباك من صوّن الفلسفة وجعلها لا تخالف عقيدة مسيحية أم إسلامية، وكشف النقاب عن عقم التمسك بالحرب يونانياً كان أم عربياً وفتح بحرية التأويل آفاقاً جديدة للعقل.. فقد أبدى ابن رشد توجهاً إيجابياً مبدياً ثقة كبيرة بطاقات الإنسان الجسدية والعقلية، وكان يعتبر أن الموجودات وجميع أجزاء العالم موافقة للحياة البشرية، وأن الأرض موافقة بوجود الإنسان عليها، لكن السعادة لا تكون إلا في الاجتماع والحياة المدنية وفضائلها، ففي حالة العزلة والتصوّف لا تقوم الصناعات والعلوم التي يعتبر طلبها شرطاً للسعادة.

ابتعد ابن رشد عن المثل الأعلى التأملي اليوناني المتأخر وتمسك بالمثل الأعلى الحضاري الجديد الإسلامي الذي يتوخى التقريب بين النظرية والعمل الذي يتفق مع إعادة الاعتبار نسبياً للنشاط العلمي على الدنيا والعلوم والعمل.

وفي عصر النهضة الذي تعرض فيه المثل الأعلى التأملي لنقد وأنجب رجالاً يضمون إلى قوة الفكر براعة اليد وحيوية الظروف الحسية، كان للرشدية دور كبير في إزالة المثل الأعلى، ومن جهة أخرى يرى ابن رشد أن الحياة السياسية هي وحدها الجديرة بالإنسان والمتفقة مع حقيقته الاجتماعية الأصلية مشيراً بذلك مبدئياً إلى إيديولوجيا القرون الوسطى الأوربية، وقد كان لتطوير دراساته في علم النفس بين الإنسان والعقل الفعال دور أساسي في تعزيز أساس حياة المدنية السياسية الذي له طابع عميق على الصفة الاجتماعية المدنية للوجود الإنساني الواقعي. وعنده أن المدنية لا تكون ممكنة إلا إذا اعتمدت على:

أ- المركزية: فللدولة رئاسة أولى تكون فيها أفعال الرئاسات الأخرى، تابعة لفعل الرئيس الأول ومتفاوتة فيما بينها على سياسة مدينة فاضلة، والمركزية تقتضي الاعتدال في السياسة والقضاء على الفوضى القائمة على (المدن السريعة البوار) وعلى الاقتصاد الطبيعي المغلق، وبهذا يؤكد ابن رشد معارضته للشكل الطبيعي من العلاقات الإقطاعية الوحيدة التي لا تتفق مع ازدهار اقتصاد المدينة التجاري وتوطيد المركزية السياسية.

ب- وضع أسس سياسية معلومة تحدّ من السلطة المطلقة لسلطة الحاكم، فيكون هناك قانون يرجع إليه وعادات ثابتة توجه أفعال الملك والحاكم وإلا كان الملك جائراً ليس له ضابط تجري على إرادته، وعلى هذا الأساس ترسى دعائم دولة منظمة تنظيماً عقلانياً فيتحرر الناس من تسلط الذي كانوا منساقين وراءه في تبعيتهم له..

ج- أن تكون السياسة مدنية تنويرية على أن يكون الفيلسوف والعالم مرشداً للحاكم.. يوجه ويحقق للناس الإصلاحات الثقافية والاجتماعية ومنها:

1- القضاء على النفوذ الاجتماعي والأيديولوجي لفئة المتكلمين والفقهاء الذين يخوضون في حطام الدنيا ويشكلون سنداً لفئة أسياد الأرض الإقطاعيين.

2- نشر العلم على نطاق واسع والاهتمام الطبيعي إذ وجب على من أراد معرفة الله أن يعرف مخلوقاته، فمعرفة الطبيعة هي طريق السعادة وهي التي تضمن الوصول إلى موجود مفارق للعالم محرك له منذ الأزل.

3- القيام بتربية الناشئة عموماً والتأكيد على أهمية استعداد الجمهور لها كما يتبين من شرحه لجمهورية أفلاطون في كتابه المعروف (جوامع سياسة أفلاطون).

4- تحرير المرأة من عبوديتها للرجال ودعوتها للمشاركة في جميع شؤون الحياة بما فيها إدارة شؤون الدولة في محاولة النظر إلى المجتمع نظرة عملية والبحث عن تفسير طبيعي لأشكال وظاهرات الاجتماع الإنساني والمدني، والإشارة إلى أن الملكية الخاصة ظاهرة اجتماعية أساسها تجاوز الحق والعدالة كما جاء في كتاب (جوامع سياسة أفلاطون).

العدد 1102 - 03/4/2024