من قضايا النقد والتلقــّي

 إذا كان النقد فعّالية لغوية وفكرية مؤسَّسة على استثمار المعرفة والذائقة وملَكة الحكم، فإن تلقي هذا النقد بضروبه المختلفة في فعالياتنا الثقافية التي تقوم على استقبال نصوص الإبداع في مرايا النقد، أصبح مغامرة غير محسوبة في الأعم الأغلب، لا لأن النقود الممارسة على نصوص بعينها لا تنتمي إلى حقل النقد الواسع الدلالة، بل لأنها تفارق لغة النقد على نحو مؤسٍ. فأن تغيب لغة النقد ويعول على الانطباعات الأولى التي تشكل أولى شرارات الاحتكاك، فهذا لا يؤسس بمنظور التلقي لما يمكن أن نعتبره نقداً منتجاً، وإنما هو نقد لا يُقيم إلا على حواف النصوص ويمر بها عابراً دون أن ينتبه لقيمتها فاحصاً لبنيتها الفنية وأنساقها ومرجعياتها الثقافية، وفي ذلك مفارقة ثقافية سيجد المتلقي ذاته في تشتّت واضح، وليس بوسعه أن يقيم علاقة مع النص مباشرة لطبيعة ما يُمارس في غير مكان، بعيداً عن ماهية النقد.

فهل أصبحت ممارسة النقد شائعة لمن استطاع إليه سبيلاً؟.

ما معنى الإعجاب بالشخص لا النص، وهل تُقاس العاطفة مهما كانت نبيلة معياراً على النصوص؟.

وعلى الأرجح ثمة فجوة كبيرة آخذة في الاتساع من شأنها أن تسهم بتأثير سلبي على المشهد الثقافي في بعض مواضعه، فممارسة الاحتفاء ليست هي الممارسة النقدية المنشودة، بوصف الاحتفاء طقساً إعلانياً لا يحتاج إليه النقد، وربما يحتاج إليه المبدع لكي يتعرف الناس إبداعه، فالنقد هو صاحب القيمة التي تقيم وتعلل وتؤثر وتثري حركة ما بعينها، وما نقصده هنا هو أشكال الاستسهال التي شاعت في غير مكان على خارطة الثقافة، فهي لم ترتقِ بالذائقة من جهة، ولم تقترب من النصوص اقتراباً علمياً على الأقل، فضلاً عن أن المبدعين قد تولوا مهمة النقد فيما لم تنضج نصوص بعضهم الإبداعية، وهذا بحد ذاته ليس سلبياً، ولكن التعويل عليه سيعلن (موت الناقد)، ليس الناقد الشخص وإنما المؤسسة والتقاليد وتواشج العلم والمعرفة من أجل ارتقاء في المشهد الثقافي ننشده ونتطلع إليه، ربما اُعتبر ذلك نوعاً من الفوضى نتيجة غياب دور الناقد الحقيقي أو تغييبه بفعل عوامل موضوعية ذاتية، وقد يقول قائل إن طبيعة ما يُنتج من إبداع قلق لا يعبر عن تلك الصيرورات المدهشة التي يمر بها المبدع، جعلت النقد في حالة انكفاء ومراقبة عن كثب وانتظار لما سيسفر عنه ذلك (التداول) الذي أصبح أقرب إلى تقاليد التواصل الاجتماعي وبالمعنى الضيق، وأقرب إلى ما تنتجه العوالم الافتراضية من تبسيط ذلك التداول الذي يبقى على سطح المعنى ولا يملك النفاذ عميقاً إلى النصوص تفكيكاً وتأويلاً واستشرافاً، وقد يرى آخرون أن طبيعة العصر التي هدمت كل الحدود بين الأجناس جعلت من النقد في وجوهه الابداعية ظاهرة بعينها، دون احتفاء بالمعيار بوصفه الناظم الحقيقي للعلاقة ما بين أطراف المثلث المبدع والناقد والمتلقي، وعليه فإن زمن التلقي المفتوح الذي غلبت عليه الصفة (الجماهيرية) بعيداً عن النُخب، قد أصبح زمناً سائداً لا متغير فيه سوى إعادة إنتاج المعروف والمتداول، وفي هذا الاحتدام من التشظي المقصود أو غير المقصود، أصبح النقد هو غابة الأشجان بامتياز، فهل تخلت مؤسسة النقد عن دورها بالمعنى التاريخي وبالمعنى التأسيسي، حتى أصبح النقد شائعاً على نحو أو آخر؟.

بطبيعة الحال وفي استقراء ذلك الاختلاط في المعايير، سنقف على مشهد كثير الالتباس، وإن كان من التباس مضيء، سنتعرف عليه في تلك الطبيعة المغامرة التي تقوم على انفصام المرجعيات واستبدالها بأُخرى لن تبقَى القيمة ضائعة مهما تعددت أشكال تلك الممارسات، لأنها هي المكتفية بذاتها.

العدد 1104 - 24/4/2024