في ذكرى ماي لاي

 الرأسمالية مرادف للحروب العدوانية، التي تُشنّ أساساً من أجل السيطرة على أرض وموارد شعب آخر، ولضمان تلك السيطرة أو لتصفية منافس، تبادر الرأسمالية بحروب غزو أو ببساطة تدمير، ولضمان أن الشباب الذين ترسلهم لتنفيذ تلك الحروب يفعلون ذلك بدرجة مناسبة من الوحشية تغرس الرأسمالية في أذهانهم، ليس فقط الكراهية لـ(العدو) التي تغذيها بعناية، بل كذلك الازدراء، الاعتقاد بأن العدو أقل من إنسان، ووضيع في طبيعته ولا يستحق أي اهتمام إنساني.

مثلت ذلك فظائع النازيين على الجبهة الروسية في الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد أعوام قليلة مارست القوات الأمريكية فظاعات مماثلة في الحرب الكورية، وبعد ذلك جاءت الحرب الفتينامية ومرة أخرى جرى تلقين الجنود الأمريكيين أن الفيتناميين أقل من بشر، مستهلكين وليسوا أكثر من (ضرر جانبي).

مرت في آذار ذكرى مجزرة ماي لاي، إحدى أكثر الحوادث هولاً في الحرب الفيتنامية، الحرب التي اشتهرت بكثرة الحوادث المروعة، قتلت سرية من الجنود الأمريكيين بوحشية معظم سكان القرية الصغيرة الفيتنامية الجنوبية ماي لاي في آذار ،1968 ومع أن الأعداد الدقيقة لا تزال غير مؤكدة، يعتقد أن 500 شخص، بينهم نساء وأطفال ومسنون قُتلوا.

قرية ماي لاي الصغيرة جزء من قرية سون ماي، وتقع في مقاطعة كوانغ نغاي، التي كان يعتقد أنها معقل جبهة التحرير الوطني التي سماها الأمريكيون (فييت كونغ)، وبعد إبلاغها بأن (الأنصار من فييت كونغ قد سيطروا على سون ماي، أُرسلت سرية شارلي من لواء المشاة بقيادة الملازم ويليام كالي إلى القرية بمهمة البحث والتدمير.

حذر قادة الجيش جنود سرية شارلي من أن كل الموجودين في سون مالي يمكن أن يُعدوا فييت كونغ أو أصدقاء نشيطين لفييت كونغ، وأمروهم بتدمير القرية، وعندما وصل الجنود لم يجدوا فييت كونغ، ولكنهم جمعوا وقتلوا مئات المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال والمسنين، بطريقة وحشية للغاية، ومن ذلك الاغتصاب والتعذيب. لم تُطلق رصاصة واحدة ضد رجال سرية شارلي ماي لاي. القرويون الذين كانوا يستعدون ليوم السوق لم يهلعوا أو يهربوا في البداية، واجتمعوا في الأماكن العامة في القرية الصغيرة.

قال هاري ستانلي، الرامي بالرشاش من سرية شارلي خلال التحقيق الذي أجرته الفرقة في إطار التحقيق الجنائي للجيش الأمريكي، إنه رأى أحد أفراد الفصيل الأول يدفع قروياً إلى بئر ويرمي قنبلة يدوية إلى البئر، ورأى بعد ذلك 15 أو 20 شخصاً معظمهم نساء وأطفال، راكعين حول معبد فيه 70-80 قروياً يحترقون كان قد جمعهم الفصيل الأول.

عقلية الجنود الأمريكيين يمثلها الجندي الأول بول ميدلو الذي قتل بالرشاش نساء وأطفالاً، شهد أن النساء كن يحاولن حماية أطفالهن.. تذكر أنه كان يطلق النار على النساء اللواتي حملن أطفالهن على أيديهن، لأنه كان مقتنعاً في ذلك الوقت بأنهن جميعاً مفخخات بقنابل يدوية ومستعدات للهجوم.

كانت مجزرة ماي لاي رهيبة لدرجة أن جنوداً أمريكيين غضبوا بسببها.. الضابط المجاز هوغ تومبسون، وهو طيار مروحية عسكرية في مهمة استطلاعية، حط بطائرته بين الجنود والقرويين المنسحبين وهدد بفتح النار على الجنود إذا واصلوا هجماتهم. بدأ رون ريدنهور الجندي في اللواء 11 الذي سمع تقارير عن المجزرة ولكنه لم يشارك فيها، حملة لكشف الأحداث ولكنه واجه تستراً من جانب الجيش الأمريكي. وبعد كتابة رسائل إلى الرئيس ريتشارد نيكسون والبنتاغون ووزارة الخارجية ورؤساء الأركان المشتركة والعديد من النواب، أعطى حديثاً للصحفي الاستقصائي سيمور هيرش الذي قطع الصمت حول القصة في تشرين الثاني 1969.

وللسيطرة على الضرر أمر الجيش الأمريكي بإجراء تحقيق بشأن ماي لاي، ترأس التحقيق الفريق ويليام بيرس وأصدر تقريره في آذار 1970 وأوصى باتهام لا أقل من 28 ضابطاً بسبب ضلوعهم في المجزرة أو التستر عليها. اتهم نصف هذا العدد فقط وبُرّؤوا كلهم باستثناء كالي الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد بسبب دوره في توجيه القتل وخُفف الحكم بعد الاستئناف إلى عشرين سنة وبعد ذلك إلى عشر سنوات، وفي عام 1974 أخلي سبيله.

كانت معنويات الجنود الأمريكيين منخفضة في مطلع سبعينيات القرن الماضي وتصاعد الغضب وخيبة الأمل، وانتشر تعاطي المخدرات بين الجنود (قدر تقرير رسمي في عام 1971 أن أكثر من ثلث الجنود الأمريكيين مدمنون).. وسبب ما تكشف من مجزرة ماي لاي المزيد من هبوط المعنويات، وتساءل الجنود أية فظاعات أخرى يخفي رؤساءهم، وعلى الجبهة الداخلية في الولايات المتحدة غذت وحشية مجزرة ماي لاي والجهود التي بذلها كبار الضباط لإخفائها المشاعر المعادية للحرب.

العدد 1105 - 01/5/2024