النقد الأدبي..بين التبعية والإبداع

النقد الأدبي فعالية نثرية مركبة تحاول التوفيق بين العلم والفن في شرح النصوص الأدبية وتفسيرها وتأويلها وإصدار حكم قيمة عليها. ثمة من يعتقد بأن الناقد الأدبي مبدع خائب، فهو إما شاعر مخذول، أو روائي مخفق، أو مؤلف مسرحي فاشل. يستند هذا الرأي إلى مرجعية أسبقية النص الأدبي في الوجود على النص النقدي، فالنقد، بناءً على ذلك، تابعٌ للأدب، وهو نَصٌّ على نصّ، يتحدد به ولا يستطيع الانفلات منه، بله التقدم عليه فهماً وصياغة.

أسبقية النص الأدبي ليس قيمة فنية، فهي سبق زمني، إذ كيف يمكن للأب أن يفاخر ابنه لأنه أسبق منه في الوجود زمنياً. والمعروف أن الابن سيصبح عما قريب أباً لابنه، والأفضلية لمن يقوم بدوره وبواجبه بشكل أفضل، وليس للسابق زمنياً. أما مقولة نص على نص فلا تعني أبداً التبعية، فكثيراً ما يتقدم النص النقدي على النص الأدبي عند النقاد الذين يستحوذون هذه الصفة، والتي لابد له للحصول عليها من مقومات لا تقل أبداً عما يحتاج إليه الشاعر أو الروائي، إن لم نقل لابد من معارف ومقومات أعمق وأوسع تستند إلى ما يدعى بحوارية المعارف.

ولادة شاعر أو روائي أسهل بكثير من ولادة ناقد، لأن الشعر يعتمد أساساً على الموهبة، بينما النقد يتطلب، إضافة إلى الموهبة التي هي شرط لكل إبداع، المعرفة العميقة والثقافة الواسعة. يزدهر النقد في الظروف المتوترة اجتماعياً، وفي فترات ازدهار النظريات الفكرية والفلسفية، فلا نقد دون رؤية فلسفية، فهو ابن الفلسفة تاريخياً، وفي أحضانها نشأ وترعرع، ثم انفصل عنها وأصبح علماً وفناً مستقلين متمثلاً بمدارس واتجاهات مختلفة قد تبلغ أحياناً حد التناقض. عملية النقد تتطلب الموضوعية والحياد، وأدبيته تستدعي الذاتية والانفعال وشيئاً من التحيز، والناقد الناجح من يستطيع التوفيق بين ذاتية الفن وعلمية النقد في الممارسة النقدية.

مراجعة بسيطة لتاريخ النقد العربي قديمه وحديثه تشير بلا مواربة إلى أن عدد النقاد في تاريخ الثقافة الأدبية العربية، كما أحصاهم د. صلاح فضل، لا يتجاوز 150 ناقداً، 50% منهم في القرن الهجري الرابع، و25% من القرن الرابع إلى بدايات القرن العشرين، والباقي في القرن العشرين، بينما عدد الشعراء العرب من العصر الجاهلي إلى اليوم يعدّ بالآلاف، وعدد الروائيين يتجاوز المئات علماً بأن عمر الرواية العربية لا يتجاوز مئة عام.

نخلص من ذلك أن الناقد ليس من كتب نصاً نقدياً أو شرح قصيدة أو حلل رواية، إنه: أديب، عالم، فيلسوف، ذواقة على درجة من الحرفية والدربة والدراية والمهارة في تناول النصوص واستنتاج القواعد الناظمة له.. وتحديد السنن المتغيرة للأجناس الأدبية، ومحطات تطورها والتجاوز والاختراقات الحاصلة فيها مع تقدم المعارف الإنسانية في حراكها المستمر.

أما التنظير للحركات الأدبية وتحديد العلاقات والبنى الداخلية للنصوص بالسياقات المعرفة (اجتماعية – ثقافية) التي أنتجتها، ثم قامت النصوص بتمثيلها، فتلك عملية معقدة لا تتأتى إلا لناقد حصيف امتلك الحس النقدي والوعي الثقافي والخبرة المعرفية في آليات تشكل الإنتاج الأدبي وعلاقاته بالبنى الكبرى التي ساهمت في إبداعه.

الإنتاج الأدبي ليس ظاهرة فردية، إنه عملية اجتماعية شديدة التعقيد والتداخل، والنقد وحده من يميز فيها الذاتي (الفردي) من الاجتماعي (الموضوعي) وهذا يعتمد على إدراك العلاقات المتشابكة بين البنى الفوقية والأبنية التحتية، وخصوصية التفاعل بينهما ودقته، فكثيراً ما تتقدم الأبنية الفوقية على البنى التحية التي أنتجتها، ولهذه الظاهرة خصوصيات وآليات متعلقة بطبيعة القوى الاجتماعية وبمستوى التطور الثقافي وبسمات العصر.

الخلاصة والنتيجة.. النقد فن أدبي له أنواعه وحدوده ومرجعياته، وهو إبداع مستقل عن النصوص التي يتعامل معها، فكثيراً من الأحيان ما يفجر هذه النصوص ويعيد بناءها من جديد، له وظائف ويحتاج الممارس له إلى عدة قد لا تتطلبها الفنون الأدبية الأخرى، والدليل على ذلك قلة عدد النقاد أمام عدد المبدعين في الأجناس الأخرى.. هذا الوضع يفضي بالضرورة إلى عدم قدرة النقد الأدبي على مواكبة الإبداع في الشعر والرواية والقصة وغيرها من الأنواع الأدبية، وهو ليس تقصيراً من النقد أو الناقد، وإنما غزارة في الإنتاج، بغضّ النظر عن نوعيته.

العدد 1107 - 22/5/2024