أصدقاء (النور) يسهمون في الحوار الفكري الدائر على صفحاتها

 أثارت المقالات الحوارية، على صفحات الأعداد الأخيرة من جريدة النور (مقالات: صريح البنّي، بشار منيّر، إيمان ونوس، طلال الإمام..) اهتمام المعنيين من القراء. ورغم غلبة الطابع الفكري، على تلك الحوارات، فإن محتواها الحقيقي يرتبط بالحالة السورية الراهنة والمستقبلية، من جميع جوانبها. ولهذا السبب فقد انطلقت من الشعور بالقلق من تطورات تلك الحالة التي أظهرت دوراً متضخماً للقوى اليمينية السلفية، وتراجع الدور الوازن للقوى اليسارية والتقدمية الذي تميّزت به سورية، منذ الاستقلال.

تداعى عدد من أصدقاء الجريدة، للقاءٍ، يوم 4 آذار ،2016 لمناقشة الأفكار الرئيسة في تلك الحوارات، خصوصاً تلك المتعلقة بدور اليسار ذي الأصول الماركسية، وضرورات تجديد فهمه وأدائه، استناداً إلى الوقائع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة، في سورية والمنطقة والعالم، وتحديد المدى الذي تتطلبه في تعديل الرؤى النظرية، وهو الجانب الذي هيمن على مجريات اللقاء، تساوقاً مع نوعية حوارات (النور).

تشارك (النور) قرّاءها الاطلاع على بعض وقائع ذلك اللقاء، الذي قدم كاتب المقالة، في بدايته،عرضاً موجزاً للنقاط الرئيسة، في تلك المقالات، ثم جرى حولها نقاشٌ مستفيض. العرض أدناه هو خلاصة ذلك النقاش، ننشره، تحريضاً على إسهام أكبر، متعدّد الجوانب، في الحوار الدائر:

بين الإيديولوجيا والعلم: هل تصحّ قوانين الطبيعة على المجتمع؟ كيف تتحول الفرضية إلى نظرية علمية؟

أكد كارل ماركس أن الفلاسفة فسّروا العالم، لكن الأهم هو تغييره..كيف؟. ورأى أن (الأيديولوجيات ليست ثابتة)، وللأسف لم يطوّرها الماركسيون، واعتبرها لينين (صائبة بالمطلق)، وأصبح العلم هو الماركسية. سيكون من اختصاص علماء الطبيعة والمجتمع ودارسي الماركسية، تبيان دقة الجانب العلمي في الماركسية.

استناداً إلى الفهم المادي للطبيعة والمجتمع، وعلى الضد من الفهم المثالي، طبق ماركس بعض قوانين الطبيعة على العلوم المجتمعية، ووضع نظرية تطور التشكيلات الاجتماعية- الاقتصادية، وصولاً إلى التشكيلة الشيوعية، حيث يختفي الصراع الطبقي محرك التاريخ، ويستمر صراع الأضداد مع الطبيعة لأنه حتمية علمية.

ماذا يغلب على علاقة الانسان مع الطبيعة: الصراع أم الوحدة؟

كان ماركس أول من طرح فكرة الحتمية التاريخية العلمية وبنى عليها. جاء في كتاب عن إنجلز أنه كان متشدداً حول ( الحتمية) التاريخية أكثر من ماركس.

يجب عدم اتخاذ مواقف جامدة، تحول دون نسف الهياكل المقدّسة، ومنها مناقشة ثوابت الإيديولوجيا، وبضمنها المقولات الماركسية.

يبدأ العلم بملاحظات حول ظاهرة ما، ثم التأمل فيها، ثم الوصول إلى فرضيات، تتحول لاحقاً إلى علم عندما تنتقل من الفرضية إلى النظرية العلمية بالبرهان التجريبي. أي أن الممارسة هي الحاسمة في إضفاء صدقية علمية على أية فرضية.

تُطوّر العلوم نفسَها، بتراكماتها، مثلاً: تطورت الرياضيات من العمليات الحسابية الأربع لتلبية متطلبات التفاعل البشري مع الطبيعة للاستفادة منها، ومن كوكب الأرض إلى التجريد وتجريد التجريد الذي له تطبيقات هائلة، أصبح من الصعب عملياً اليوم مجاراة تطورها بسبب هول الكم والنوع الناتج عن ذلك التطور.

الحقائق العلمية قابلة للتطور وكل جديد يؤدي إلى إعادة تدقيق المعلومات السابقة.

توصل أينشتاين إلى نظرية النسبية وما لم تتم البرهنة عليه في حينه، استطاعت التكنولوجيات العلمية الحديثة بتطورها الرائع أن تبرهن عليه.

ولكن أهم اكتشافاته هو تلك المعادلة البسيطة: (الطاقة تساوي: الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء). فتح هذا أفقاً علمياً هائلاً: من كتلة صغيرة لعنصرٍ بعينه، يولدُ كمٌّ هائل من الطاقة ( النووية)، عبر تكنولوجيا عالية التطور. يشير هذا إلى ضرورة الاستفادة من كشفنا لقوانين الفيزياء لمصلحة الانسانية.

ماركس كان بالدرجة الأولى مناضلاً ثورياً من أجل العدالة الاجتماعية

كان ماركس ثورياً، صاحبَ مشروعٍ للعدالة اجتماعية، بوصفه نتاجاً حتمياً للتطور المادي التاريخي الجدلي. ولكنها ( أي العدالة، خصوصاً بعد التجارب الثورية العظيمة لتطبيقاتها الواقعية، في أجزاء هامة من عالمنا، بدءاً من مطلع القرن العشرين) تبدو الآن بوصفها القيمة الانسانية الأخلاقية العليا التي يستمر النضال من أجلها، على مستوى كل بلد، وعلى المستوى العالمي، أكثر مما هي تطور مادي حتمي. هي قيمة إنسانية شأنها في ذلك شأن مجمل حقوق الإنسان: نبذ التمييز العنصري، وجميع أشكال اضطهاد الانسان وإذلاله، تحقيق مساواة المرأة بالرجل، ضمان حق التعليم والمعرفة والعمل والحياة اللائقة للإنسان، محاربة الفساد والتهرب الضريبي، توفير نتائج الإنجازات الطبية لأعدادٍ أكبر من البشر..

يعمل الإنسان في سبيل إحلال تلك القيم، ويحقق نجاحات( لا تشمل، حتى الآن، شعوب البلدان الفقيرة).. ولكن تلك المسيرة التطورية للحياة الانسانية تستند إلى المستوى المحقق من المعرفة والعلم اللذين يخلقان شروطَ صياغة قيم أخلاقية وتنظيم اجتماعي وسياسي واقتصادي، أكثر تطوراً، على قاعدة الوفرة المادية التي تنتجها التكنولوجيا الحديثة. كل هذه الشروط لم يعد من الممكن، موضوعياً، حصرها بدور خاص للبرجوازية أو الطبقة العاملة، أو بإحلال ملكية الدولة الشاملة لأدوات الانتاج..

عن اللوحة الطبقية العالمية والصراع الطبقي

يتساءل البعض: هل اللوحة الطبقية العالمية في القرن التاسع عشر تشابه اللوحة الطبقية السائدة في مطلع القرن الحادي والعشرين؟

لقد تغيّرت تلك الخريطة التي تكونت من البروليتاريا الصناعية المتمركزة في ساحات المصانع والمتعاملة مع أدوات الانتاج المتطورة، في حينه، مكوّنة طبقة ثورية قادرة على تحقيق مشروعها التاريخي لتغيير المجتمع نحو العدالة. يُشاهد حالياً، في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أغلب الدول المتقدمة تكنولوجيا، استمرار انخفاض نسبة العمال الصناعيين في خريطة تصنيف مكونات الطبقة العاملة باختصاصاتها النوعية، لصالح ازدياد نسبتهم في أعمال تكنولوجيا المعلومات والأبحاث، وهم عمال موصفون ذوو إعداد علمي وتقني رفيع.

تغييرات في طبيعة العمل وعلاقته بالتكنولوجيا وفي دور الرأسمال الثقافي (الموهبة والذكاء الانسانيين)

اختلفت طبيعة العمل مع التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، عبر القرون، بسبب مواكبة تطور عملية الانتاج المادي تطورٌ في علاقات الانتاج وفي نوعية القيمة المضافة.

تتوسع الدراسات حول مفهوم (الرأسمال الثقافي)، وتصبح التكنولوجيا، بعد اتحادها بالعلم، قوة إنتاج رئيسة. ولكنها تحاصر فرص عمل العمال وتخلق بطالةً متنامية، هي أحد أكبر مشاكل التطور الاجتماعي العالمي.

تناول ماركس الطابع الاجتماعي للعمل، وتناقضَه مع الطابع الخاص للملكية، واكتشف حقيقة أن ربح الرأسمالي ناتج عن كونه لا يعطي العامل/ العمال القيمة الحقيقية لعملهم. وإذ يستمر هذا، على نطاق واسع، فإن علينا رؤية ظاهرة أخرى تنمو باطراد، هي ظاهرة (بيل غيتس) وأترابه، ومعهم أعداد متزايدة من أصحاب المواهب المتميّزة، الذين يصنعون دخولَهم المرتفعة من الاستهلاك الاجتماعي المتنامي لـ(منتوجهم) الثقافي والذهني. يعدُّ لاعب كرة القدم المحترف أو الفنان الموهوب، في أي ميدان إبداعي، وقبل كل شيء: شغيلة البحث العلمي، من أعلى أصحاب الدخول، ويمكن أن يقفزوا، سريعاً، لاعتلاء قائمة أكبر الأثرياء..

وفي الدول عالية التطور، يرتبط تحسن مستوى المعيشة بالسعي لتطبيق قوانين صارمة لمحاربة الفساد والتهرب الضريبي، اللذين يصبحان سلوكاً لا أخلاقياً، يحاسب عليه القانون. وكمثال فإن الاتحاد الدولي لكرة القدم ( الفيفا) هو من أغنى مؤسسات العالم حالياً، وكذلك من أكثرها تعرّضاً للفساد، الذي سمع العالم عنه، مؤخراً..

عن الدولة

ماهي مواصفات الدولة التي يجب الدفاع عنها؟ يجب أن تكون دولة سيادة القانون الديمقراطية الملتزمة بمتطلبات حفظ السلام الداخلي والخارجي على حد سواء، والدولة المشار إليها تعني دولة أرض وشعب ومؤسسات، متمثلة في استقلالية سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ.

جرى التأكيد على التفريق بين الدولة والسلطة: الدولة مفهوماً هي الكيان الذي يجب أن يحافظ عليه بعيداً عن مفهوم السلطة التي قد تتجاوز العقد الاجتماعي المتوافق عليه.

لا شك أن الدولة والسلطة متماهيتان، إلى حد كبير، في العديد من البلدان. ينطلق تعريف الدول الفاشلة من إخفاق السلطة في الربط بين مؤسسات الدولة وإدارة التناقضات فيها للحفاظ على متطلبات العقد الاجتماعي والدستور، وتحول تلك المؤسسات إلى حالات شخصانية تغير وظائفها.

العدد 1105 - 01/5/2024