لويجي بيرانديللو.. بين المسرحية والقصة

بدأ بيراند يللو الكتابة قاصاً، فكتب النصوص القصصية التي لفتت انتباه القراء والنقاد إليه، وقد حوّلت بعض قصصه إلى مسرحيات، عرفها الناس على المسارح، وقد لاقت قبولاً كبيراً، بعضها تخطى الحدود الإيطالية، وبذلك راح اسم بيراند يللو يلمع، الأمر الذي جعله يتحول تحولاً طبيعياً إلى كتابة المسرحيات مباشرة، وعلى الرغم من أهمية قصصه وانتشارها داخل إيطاليا وخارجها غير أنه حقق شهرته العالمية من خلال مسرحياته التي عالجت أفكاراً وموضوعات كان لا بدّ من معالجتها لإعادة الاعتبار إلى الشخصية الأوربية بعد الاهتزازات الكبيرة التي عصفت بها في أثناء الحرب العالمية الأولى، لقد أراد أن يعري الجانب الغرائزي في الشخصية الإنسانية كي يدينه، وأن يقول للناس: إياكم والغرائز لأنها مدمرة، كما أراد أن يكشف عن الفارق الجوهري ما بين الشخصية الحقيقية، والشخصية المخادعة، وأن امتلاك الإنسان لفضيلة الثقة بالنفس يجعله يظهر على حقيقته، وفقدان الثقة بالنفس يجعله متوارياً وراء شخصية مخادعة مراوغة كاذبة ومتلّونة أيضاً.

كتب بيراند يللو قصصاً وروايات ومسرحيات كثيرة في السنوات العشر التي قضاها إلى جوار زوجته المريضة سنة 1904 إلى سنة ،1914 فقد ترك لقرائه أكثر من أربعمائة قصة قصيرة بعضها نقل إلى المسرح، وعشر روايات، وأكثر من ثلاثين مسرحية كانت جميعها السبب في شهرة بيراند يللو في إيطاليا فصاركاتباً قومياً، كما كانت السبب في شهرته خارج إيطاليا فصار كاتباً عالمياً، ولكن وعلى الرغم من غزارة إنتاجه، لم يصب بيراند يللو شهرة واسعة على المستوى العالمي إلا قبل وفاته بعشر سنوات تقريباً، فمنذ عام 1926 بدأت شهرة بيراند يللو في الصعود المتوهج حتى غدت نصوصه القصصية والمسرحية تقلّد في الكثير من البلاد الأوربية، وباتت معظم أعماله الأدبية تنقل مترجمة إلى معظم اللغات الأوربية، الأمر الذي جعل العالم الأوربي يترقب إبداعاته من جهة، مثلما جعل الأكاديمية السويدية تنظر إلى أدبه بكل التقدير، فمنح جائزة نوبل سنة ،1934 أي قبل رحيله بسنتين.

من اشهر أعمال بيراند يللو مجموعته المسرحية الكبيرة التي صدرت  كاملة تحت عنوان (الأقنعة العارية)، ومجموعته القصصية الكبيرة التي صدرت هي الأخرى  كاملة تحت عنوان (الحياة العارية)، وقد أراد خلالهما أن يكشف عن وجه الحياة الحقيقي بعيداً عن أي تأنق وتزويق.

من أشهر رواياته (المرحوم ماتياس باسكال)، وفيها رصد شديد التناقض لسيرتين اثنتين، واحدة لـ ماتياس باسكال في حياته، وثانية له وقد أصبح مرحوماً، وبين الحياتين والسيرتين تتأرجح القيم وكأنها ثياب معلقة على حبل عصفت به رياح شديدة، وكذلك له رواية عنوانها (زوجها) التي أحدثت هزة اجتماعية داخل الحياة الإيطالية لأنها تبدي ما تقوم عليه الحياة الزوجية من ثنائيات مثقلة بالخداع والمراوغة والتمثيل وارتداء أقنعة كثيرة تسهم كلها في تغريب الحياة الزوجية.

وكانت روايته (لكل شيخ طريقة) سبباً في شهرته وعلى نطاق واسع في إيطاليا، وهي رواية تقول بوضوح إن للحقيقة وجوهاً كثيرة، وإن للحوادث والأحداث مرايا كثيرة أيضاً، وإن للخداع طرقاً كثيرة أيضاً، فللزوجة طرقها ووسائلها وأساليبها مع الزوج لكي تعيش معه حياة غير مهددة بالانهيار، ولها أيضاً طرقها ووسائلها وأساليبها مع العشيق كي لاتنهار تجربة العشق التي تشكل متعة الحياة التي لا بدّ منها، مثلما ترى الزوجة أن الحياة الزوجية والإبقاء على الزوج الشرعي حياة لا بدّ منها من أجل أن تظل النظرة الاجتماعية تجاهها نظرة لا تشوبها شائبة، والزوج يتخذ من الأدوات والوسائل والطرق والأساليب ما يجعله يماثل بفعله هذا ما تفعله زوجته، والمدهش أن العشيق يقوم بفعل ثالث مماثل لفعلي الزوجة والزوج كي تظل الحياة مرتكزة على هذه الأضلاع الثلاثة: الزوج- الزوجة- العشيق، في الرواية لعبة ابتكرتها الحياة هي لعبة: الإخفاء والتجلي.

ومع أن بيراند يللو غدا من أبرز كتّاب القصة في إيطاليا وأشهرهم، غير أن مسرحياته هي التي أعطت شهرته الأدبية أبعاداً إضافية في إيطاليا والعالم، وخاصة المسرحيات التي كتبها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومنها: (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ،1921 و(هنري الرابع) ،1922 وقد سبقتها محاولات مسرحية كثيرة لكنها لم تعرف الشهرة والانتشار إلا في البلاد الإيطالية، ومنها: (واجب الطبيب)، و(ليمون صقلية)، و(طاقية المجنون).

وأهمية المسرح الذي كتبه بيراند يللو تتجلى في أنه لم يقصد أن يكون هازلاً في كل ما انشغل به، أو انكشف عنه، وإنما سعى لأن يكون ساخراً من علل المجتمع، سخر منها من أجل رفعها ومحوها، وعن طريق السخرية كان مؤثراً للغاية، ولو وقف عند حد الهزل من هذه الظواهر لبقيت لأن فارق التأثير ما بين السخرية بما تحمله من مرارة وتشخيص أقوى وأشد فعالية من الهزل الذي يمس القضايا والأمور، ومنها العلل والظواهر المرضية مسّاً رقيقاً، فالسخرية تترك وراءها حفراً عميقاً في النفوس، بينما الهزل يترك وراءه ابتسامات ذابلة في الأعماق ونحو الجذور، ولم تكن غايتها الوصف أو التذكير أو الإلماح والإشارة فقط! إنها مسرحيات تطلب الدخول العاصف لكل ما تنوي الكشف عنه لاقتلاعه أو توكيده.

ومع كل الأهمية والحظوة والشهرة التي حازها بيراند يللو، إلا أن مسرحياته، وكتاباته القصصية عموماً، تشكو من حمولتها الفكرية،وثقل حركتها وبطء اندفاعها فمسرحياته أشبه بالبواخر الكبيرة التي لا يدرك المرء ما بداخلها إلا بعد تعب مرهق، وانتظار طويل، ولعل مرد هذه النزعة التفكيرية في أعمال بيراند يللو يعود إلى اختياره الطرق الفلسفية والأساليب العقلانية لإدراك ما يريد الإشارة إليه من فوارق، فهو مثلاً يريد، ومن خلال أعماله إن يقول إن المرء يمتلك شخصيتين، واحدة طبيعية ذات نوازع وشهوات صريحة، ولا بدّ من تلبيتها، وثانية هي الشخصية الاجتماعية التي تعرف القيود الاجتماعية (العادات، التقاليد، الأعراف، التصورات) وضروراتها، ولا بد من مسايرتها أيضاً والأخذ بها، وإلا صار الإنسان وحشاً يمارس متطلبات دوافعه وهو يرتدي ثيابه الحريرية! إن ما يتطلب الحوار من إقناع فكري، وإبداء البراهين وبيانه، هو الذي يعطي هذا الانطباع بأن أعمال بيراند يللو مستغرقة في التفكير العميم، وهو ما يشير أيضاً إلى بطئها وثقل حركتها وضعف اندفاعها.

وأيا كان الأمر، فإن بيراند يللو اسم إيطالي كبير في عالم الأدب، فقد رمم بأدبه وإبداعه وثقافته الهوة الفاصلة ما بين أدباء إيطاليا الكبار (دانتي، بترارك، وبوكاشيو) وأدباء إيطاليا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وما كان للأدب الإيطالي إلا أن ينتظر كل تلك السنوات حتى يأتي كاتب فذ مثل بيراند يللو، ليربط مسافة زمنية، وأخرى إبداعية مشت بها وعرفتها السنوات الطوال.

رحل لويجي بيراند يللو سنة ،1936 وبريق جائزة نوبل يشع في أعماله، ومن الكتابات النقدية التي عادت لتكتشف جواهر إبداع بيراند يللو التي وارتها الظروف، ومن حضوره الطاغي الذي رافقه إلى المقبرة التي دفن فيها، فقد قيل إن المقبرة عرفت بهرة ضوء مفاجئة حالما وصل جثمان بيراند يللو إليها، لعلها كانت ترحب بمقدمه.

العدد 1105 - 01/5/2024