رؤية في مرايا التأويل.. بحثاً عن تأويل ثقافي منتج

إذا كان من الصحيح أن القصيدة مثلاً لا تنجلي لقارئ إلا باستقبالها، وللاستقبال ذاته أن يكون متعدداً بتعدد القُرّاء وتعدد مرجعياتهم المعرفية، والأمر ينسحب على غير جنس إبداعي، لكننا في الشعر واستقباله ومفارقات استقباله أيضاً، وبحثاً عن الشريك المنتج- شريك النص- في تدوير القراءة واكتشاف مضمرات النص وسياقاته، أكثر من بُناه اللغوية فحسب، يبدو أننا بصدد البحث عن أكثر من تأويل لتُنتج الثقافة دالّها في معرفة النص، وصولاً إلى نظرية الإبداع والأدب والكتابة، والأدب عموماً بوصفه رؤيا للعالم، سيمس ذاتية المتلقي وكيف يصل النص إليه عبر ما اصطلح عليه من شفرات النص، ليصبح بالتالي المؤول شريكاً نوعياً، لا مجرد مفسر للنص، كأن يقف على ذراه الجمالية المترامية الأطراف، فعلم جمال النص هو نتاج الذائقة والحساسية قبل أن تتعرف الثقافة بمسمياتها والمفاهيم بمدركاتها على النص بناءً أو عمارة. ومن اللافت في هذا السياق أن تأتي غير قراءة أُحادية وعابرة بزعم أنها تُضيف إلى النص المنقود وإلى الناقد أيضاً، لكنها سوف تقعي على السطح تماماً، فلا هي تُمسك بمنظومة دلالاته، ولا تقبض على المشترك الإبداعي المنشود، أو تُنتج المعنى من غير حفاوة مجانية!.

وفي تعدد أشكال الممارسات القرائية، نذهب إلى إرهاصات معرفية أولى من شأنها اكتشاف النص في قصدياته، لأنها ستصبح دالة القراءة بامتياز، لا وقوفاً عند قصد الكاتب، على الرغم من أهميته الفائقة. وما نقصده هنا بالطبع، هو البحث عما يعاضد فرضية التأويل الثقافي، لأن النص في المحصلة هو ناتج ثقافة وناتج لغة في ضروب اشتغالها وكفاءة محكيها، وإذا كنا لا نختلف على الشعر، وإنما نختلف به فذلك ما يفتتح غير سؤال معرفي يمس جهود التلقي وخبراته لدى المشتغلين في  حقل النقد والإبداع.

إن اللحظة الجمالية المفترضة، التي تعتمل في نسيج نص بعينه أو سواه، هي بالتأكيد ناتج المعرفة في خطابها، هذا من حيث مقاربة شرطها المعرفي، لكن ثمة شرط إنساني يضعنا في حال تلقفنا للإبداع بشكل عام، وللشعر على نحو خاص، من شأنه أن يكون مركباً ذهبياً لعملية التأويل المُنتج، باستدخال عامل الزمن، فالزمن هو الناقد الطليق، فكم استبْقت الذاكرة الثقافية من أسماء وتجارب وعلامات، وكم تجاوزت ما يفيض عن ذلك بكثير.

فعبر أنساق المعنى- والمعنى مشترك جمعي وفردي بآن معاً- خارج نظرياته التي حفلت بها خطابات الأدب والإبداع، تُفجّر القراءة غير كون إبداعي في النص، أي أنها تذهب – وهذا من المفترض- لا إلى ما يقوله النص، بل إلى ما لم يقله النص، وهذا يعني أننا في الناتج القرائي نستقرئ في ثقافة النص عبر مرجعية للكاتب، وتبدل هذه المرجعيات هو ما ينعكس بأداء الكتابة وما ينبغي له أن يظهر في مستوى الانكشاف. وعليه فإن جماليات النص هي جماليات مفتوحة ومغلقة بآن معاً، ليأتي المؤول/ القارئ، بمستوياته التي تواضع عليها النقد، أي القارئ المفترض، القارئ المثالي، القارئ العام، مفككاً في الأسيجة والخطابات، لا واقفاً عند التخوم شارحاً لما لا لزوم لشرحه. وبتبدل نظرية الاستقبال بشرطها المتغير، يبقى للإبداع أن يكون محايثاً لها لا متطيراً منها، لأن ما وقر في أذهان المبدعين، أنهم يكتبون لقارئ شريك، وهذا القارئ تأتي به الأزمنة والذائقة واللغة، ليكون قارئاً في النص وليس للنصّ، وبمعنى آخر محاوراً له، إذ إن الأدب بطبيعته هو حواري بامتياز، لتتحاور النصوص والخطابات وتُنتج بالمعنى الثقافي ما يعين القارئ على التقاط اللحظة المعرفية في عمل الكاتب، وبما يجعل من نصه مخترقاً للنصوص، وحافزاً على إنتاج القيمة التي دونها لا يستقيم النص، ويصعب العثور على منهج بعينه ليضبط أداء اللغة على الأقل!.

العدد 1104 - 24/4/2024