ماركس ضد سبنسر.. روبن هود؟

(ما الفائدة إذا عرفت الشمال الحقيقي؟) …أبراهام لينكولن

يوم السبت الماضي، أتى الخبر من فيلادلفيا، يقول إن أستاذ الاقتصاد في جامعة بنسلفانيا الشهيرة جيدو منزيو تعرض للمساءلة على متن طائرة أمريكان إيرلاينز في مطار فيلادلفيا، حين شكته إحدى المسافرات بعدما رأته يكتب أشياء غير مفهومة على ورقة قبل إقلاع الطائرة.

تبين أن هذه الأشياء (غير المفهومة)، التي ظنتها المسافرة كتابات إرهابية، ما هي إلا حلول لمعادلات تفاضلية كان يعمل عليها الأستاذ تحضيراً لمؤتمر يذهب إليه! المفارقة المضحكة ــ المبكية أن تأتي هذه الحادثة، التي تبين ضحالة الثقافة الرياضية لدى الأمريكيين، متزامنة مع إقحام باراك أوباما نفسه أيضاً في (قاعة المشاهير) الرياضيين الديمقراطيين حين أعلن أن هناك (استحالة رياضية) لأن يحصل ساندرز على عدد المندوبين الكافي لينتزع الترشيح الديمقراطي. وبالتالي فإن على ساندرز أن يقتنع وينسحب من السباق إلى البيت الأبيض. هكذا وصل استعمال(الرياضيات) ، أو بالأحرى سوء استعمالها، في المعركة التي تخوضها السلطة المسيطرة الديمقراطية ضد ساندرز الاشتراكي. كذلك فإنني اكتشفت مؤخراً أنه في منتصف ،2015 وقبل بدء العملية الانتخابية، كان يروج لـ(استحالة إحصائية) لفوز ساندرز قبل أن يتغلب عليها ويفاجئ الجميع!

بعيداً عن هذه الاستحالات الرياضية والإحصائية التي استعملت وتستعمل بذكاء وخبث كبيرين من قبل الإعلام الليبرالي لإلهاء الأمريكيين، أمثال تلك المسافرة الذكية، فإن أحد أهم المواضيع التي تتكرر أيضاً في الهجوم، ولكن هذه المرة من اليمين الأمريكي، هو أن الاشتراكية التي يتحدث عنها ساندرز ستواجه العقبة الاساسية التي واجهت كل (الاشتراكيات) والتي لخصتها مارغريت تاتشر في 1976 بشكل شعبوي في جملة لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم، حين قالت: (إن الأمر مع الاشتراكية هو أنه عاجلاً أو آجلاً سينفذ منها مال الآخرين!). هذه العبارة تعاد اليوم في الولايات المتحدة بأشكال مختلفة في المقالات والرسوم الكاريكاتورية، إذ يبرع الأمريكيون في هذا المضمار، بمقدار ضحالتهم في علم الرياضيات.

الاعتقاد أن الاشتراكية هي (توزيعية) هو خطأ شائع، من هنا فإن الأخطاء الشائعة التي يقع بها العامة، والكثير من الاشتراكيين أنفسهم، ومن بينهم ساندرز، هي الاعتقاد أن الاشتراكية هي (توزيعية)، أي إن جلّ ما يسعى إليه الاشتراكيون هو الأخذ من الغني وإعطاء الفقير في عملية (روبن هود)ية، ثورية كانت أو قانونية. والأخيرة، تتم عادة عبر استعمال أجهزة الدولة كالضرائب والإنفاق لتحقيق عملية إعادة التوزيع هذه. مع أنني أكره الموافقة على ما قالته تاتشر، إلا أن الاشتراكية عندما تنحصر بالإطار التوزيعي قد تصل إلى مرحلة استنفاد مال الآخرين، ولكن الأساس هو (مال الآخرين)، أي إننا نفترض أن الملكية والثروة لا تزالان في أيدي الآخرين (الرأسماليين)، وعندئذ قد يكون لديها بعض الحق في ما قالته.

بشكل عام، إن الاشتراكية التوزيعية قد تقع ضحية أمرين خصوصاً في الدول غير المتقدمة اقتصادياً: الأول أن يتم التوزيع بشكل راديكالي مع المحافظة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ما يؤدي إلى تعطيل الماكينة الإنتاجية بسبب (اضراب) الرأسماليين. الثاني، هو أن تطلق عجلة التضخم، كما حصل في التشيلي ويحصل الآن في فنزويلا التي قد تنتج عن عدم التوافق بين عملية إعادة التوزيع نحو الأجور والإنفاق الاجتماعي، وتطور الإنتاجية وحجم الفائض الاقتصادي. في هذا الإطار في أوائل السبعينيات، انتقد الحزب الشيوعي التشيلي سياسة حكومة الليندي بزيادة الأجور التي لم تأخذ بعين الاعتبار زيادة الإنتاجية واعتبر أنها مسؤولة عمّا نتج من تضخم عال. وكان الجيش والمعارضة اليمينية والمخابرات المركزية الأمريكية قد استعملوا ظاهرة التضخم هذه لتأليب الطبقة المتوسطة على الليندي، ومطية للانقلاب العسكري عليه في 11 أيلول 1973.

هذا الموقف، يشير إلى الفرق بين من ينظر إلى الاشتراكية من ناحية التوزيع فقط (من الاشتراكيين الديمقراطيين إلى اليسار المتطرف) ومن يرى في الاشتراكية تخطّياً للرأسمالية من حيث تغيير ملكية وسائل الإنتاج. صحيح أن الاشتراكية تحمل في طياتها أبعاداً توزيعية، إلا أن ماركس وإنجلز ميّزا بين الاشتراكية العلمية والاشتراكيات الأخرى التي انبثقت وتنبثق تاريخياً من الأخلاق أو الرغبة في العدالة أو الأديان، وإلى ما هنالك من اشتراكيات استنبطها العقل الإنساني، والتي هي بمجملها (اشتراكيات توزيعية). طبعاً، إذا كانت إعادة التوزيع شراً بالنسبة للرأسماليين، فإن تغيير ملكية وسائل الإنتاج هو (الشيطان الأكبر). قال أحد المعلقين اليمينيين الأمريكيين في معرض هجومه على ساندرز مؤخراً: (عندما ينفد مال الآخرين من جعبة الاشتراكيين فإنهم، إذا بقوا في السلطة، سيصادرون حقوق الملكية للمواطنين. وسوف يؤمّمون الصناعات ويصادرون حقوق وإنتاج الأجيال المستقبلية من المواطنين)!

في مثل هذه الأيام من شهر أيار عام 1875 كتب كارل ماركس (نقد برنامج غوته)، انتقد فيه مبدأ التوزيع وقال (إن الحق لا يمكن أن يعلو أبداً فوق البنية الاقتصادية)، لكن ما قاله المعلق اليميني يخلط الأمور زمنياً ويشوه حقيقة الاشتراكية، التي (نعم) ستصادر ملكية الرأسمال وليس ملكية (المواطنين)، وذلك حتى توقف عجلة استغلالهم المتزايد من قبل رأسمالية تزداد قهراً وإقصاءً. أما في المستقبل، وإن أتت الاشتراكية متأخرة عن موعدها، فستنتظرها أكثرية الناس لأنها الأمل الوحيد في أن لا يصادر الرأسمال فعلاً حقوق الأجيال المقبلة في إنتاجها وعملها وحياتها أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024