القراءة… من الحاجة إلى الضرورة

 هل مازال الكتاب أحد أهم مصادر المعرفة..؟ وهل القراءة هي الطريق الوحيد لتراكم المعلومات والمعارف وتخمرها في الذات القارئة لتحدث تحولها النوعي بانتقالها إلى (ثقافة)؟…

ثمة فرق بين المعلومات العامة والمعارف الموثقة، المختبرة بالتجربة العملية.. فالمعلومات وحدها لا تكفي إذا لم تجد النواظم العامة الجامعة التي تخلق منها مادة معرفية، لأن المعلومات المتناثرة مختلفة ومتنوعة، والنواظم هي ما يحدد علاقاتها وينقلها إلى سجل المعارف. أما الثقافة فهي كلٌّ جامعٌ يتكوّن من حوار المعارف وتآلفها وتكاملها وعدم تعارضها، فلا بد لها من وحدة تقوم على أساس الانسجام والتنوع مشكلة أنماط التفكير وطرائقه.

إلى فترة قريبة جداً كان الكتاب من أهم مصادر المعرفة، إذا تجاوزنا ما تكدس لدى الإنسان والإنسانية من معارف مكتسبة عن طريق التجربة الحسية المباشرة. فالكتاب هو المصدر الأكثر تنوعاً وعمقاً وتقصياً وتوثيقاً، الذي يمكن الاطمئنان إليه في عمليات التحصيل المعرفي، لكن دوره قد تراجع بفعل ثورة الاتصالات وانتشار الشابكة، إلا أنه يبقى من أهم المصادر المعرفية. ثمة من يعتمد في معارفه على مصادر أخرى، كالصحيفة اليومية أو المجلة الأسبوعية أو  الشهرية، العامة أو المتخصصة، لكن الكتاب يبقى هو الأشمل والأعمق والأوسع.. فما هو حال مقروئية الكتاب في واقعنا العربي الراهن؟ هل مازال له الرواج الذي كان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟ وكم هو عدد قرائه؟ هل هو في تناقص أو في ازدياد؟

الإجابة عن هذه الأسئلة الملحة تحتاج إلى دراسة إحصائية وتوثيق يعتمد الواقع مرجعية ومصدراً وليس الأوهام والتكفير الرغبي…ما هو واقع القراءة؟ هل أصبحت حاجة ضرورية ملّحة للإنسان كحاجته إلى الماء والهواء؟ وهل هي عادة مكتسبة، أم هي تعلّم وتعوّد وتربية؟

ثمة إجماع عام حول تناقص عدد القراء والأسباب مختلفة، منها انتشار الأمية بشقيها الأبجدية والمعرفية، والإحساس بالاكتفاء المعرفي، إذ يرى بعضهم أنه ليس بحاجة إلى زيادة معارفه، فلديه ما يكفي منها في مرجعياته الثابتة والمنجزة تاريخياً.. والإحساس بالكفاية المعرفية من أخطر الأمراض التي يصاب بها الأفراد والجماعات.. وقد تشكل مصاعب الحياة اليومية والصعوبات المعيشية أحد أهم أسباب الانصراف عن القراءة بأشكالها المختلفة ومصادرها المتنوعة، فحاجات الإنسانية الاستهلاكية قد تزايدت، فيما تراجعت احتياجاته المعنوية.

ثمة مستويات للقراءة متنوعة باختلاف المنسوب المعرفي للقراء، فهناك قراءة المطالعة والتصفح، وهناك القراءة البحثية المتخصصة، وهناك القراءة المنتجة وهي فعل حواري بين النص المقروء والقارئ الذي يناقش ما يقرؤه ويعيد إنتاجه بعد عبوره الذات القارئة بكل ما تملك من مخزون معرفي، لنصل إلى نص جديد نوعياً لا هو النص المقروء، ولا هو نص القارئ، قبل فعل القراءة، وإنما هو حصيلة التفاعل والتلاقح بينهما، ولعل هذا المستوى من القراءات أعلى مستويات القراءة وأجداها.

ماذا نقرأ؟..

تعزز كل مرحلة تاريخية وكل واقع عياني مشخص حاجات، وتطرح أسئلة، إضافة إلى الأسئلة الأزلية دائمة الحضور ثمة أسئلة تقتضيها طبيعة المرحلة، وبالتالي تستدعي موضوعات محددة تتطلب أجوبة علمية موثوقة عليها.. فالواقع الراهن يطرح حزمة من الأسئلة المعقدة شديدة التشابك، منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفي، كسؤال الهوية ومحدداتها، المستقبل وآفاقه، مواجهة الأصولية بإفرازاتها (الإرهاب المادي والمعنوي)، وكثيرة هي الأسئلة التي يطرحها الواقع على المثقفين والقراء.

من الصعب الإجابة عن سؤال واحد، لمرة واحدة، دون الرجوع إلى الكتب والمصادر البحثية، أي دون فعل القراءة الرصينة الجادة الممحصة المتأنية البعيدة عن التعصب والتحيزات المسبقة، القراءة المنفتحة المحايدة الموضوعية المقارنة التي تخول من يقوم بها الوصول إلى أفضل الأجوبة على الأسئلة المطروحة أمامه…الإجابة عن تلك الأسئلة تحتاج إلى جهود جمعية تستنهض أقصى ما في الطاقات الفاعلة من إمكانيات، وإلى عمل مؤسساتي تتضافر فيه جهود الأسرة والمدرسة والهيئات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني.

لكي تصبح القراءة عادة متأصلة في النفوس، لابد من التشجيع عليها، وتوفير الأسس الضرورية لها، والتمييز الدقيق بين الضار والمفيد من الكتب المقروءة، من قبل أهل العلم والمعرفة والاختصاص، على أن تكون مرجعيتهم المشترك الإنساني العام، وكل ما يخدم نشر العقلانية في التفكير ومواجهة الأفكار الغيبية، وما ينمي لدى المواطن شعور الانتماء إلى الوطن والحرص عليه سيداً موحداً في دولة وطنية مدنية تعلي من مكانة المواطنة، وتنبذ التعصب والأصولية والفئوية، كيفما تجلت وبأي شكل ظهرت.

العدد 1107 - 22/5/2024