الانتماء القومي ــ الوطني

مهما اعترانا من ضعف وانشقاق واسترخاء وجفاء.. واختلف فيما بيننا (ماء الوصال) فماؤنا (تَحَدَّرَ من غمام واحد)، وإن افترق وتباعَد النسب، فإنّ نسب الأدب (يُؤلِّف بيننا) إذا أقمناه فينا (مقام الوالد..)، فالحبّ والشوق والأهواء والميول المشتركة تؤلف بين الأرواح والقلوب..

هذه هي رؤية شاعرنا المبدع (أبو تمام) منذ أكثر من ألف عام، وقد أخرجتها من باب التخصيص وعَمَّمتها:

إنْ يختلف ماءُ الوصالِ فماؤنا

عذبٌ تَحَدَّرَ من غَمامٍ واحدِ

أو يَفْتَرِقْ نَسَبٌ.. يُؤلِّف بيننا

أدبٌ  أقمناهُ  مقامَ  الوالدِ

(أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي ص 62)

وسواء اتفقنا على هذه الرؤية أم اختلفنا فإنني أقول: كي تكون الروابط العروبية الأدبية واللغوية والتاريخية والجغرافية.. عروة وثقى، وتشكّل انتماء قومياً/وطنياً مجدياً وفعالاً.. ينبغي ألّا تُبنى هذه الروابط على شعارات بلا ضوابط تُطلق على غير هدى… ولا على رومانسية حالمة وعواطف ومشاعر وأحاسيس سامية فحسب، بل لا بدّ، في الوقت نفسه، من أنْ تستند هذه الروابط (الانتماء) إلى رؤى فكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إنسانية، تاريخية ومستقبلية شمولية موحَّدة وموحِّدة… ولا بدّ، كذلك، من أنْ تستند إلى وعي قومي/ وطني سليم معافى ينهضُ على ثقافة قومية/ وطنية عميقة موصولة بوعي علمي معرفي متقدم ومتطور… وإذا لم يحصل ذلك فإنّ هذا الانتماء، بل الوجود أو الكيان القومي والسوري برمّته يصير ريشة في مهب الريح، أو على الأقل يصير ضعيفاً هشاً قابلاً للكسر في أيّ حين…

إنَّ المعطيات السياسية والتاريخية تقول لنا صراحة: إذا ما أردنا، حقاً، أنْ نبني الهوية القومية/ الوطنية الحضارية للعرب ولسورية، ولا سيما في حالتنا الراهنة، بناءً حقيقياً فعّالاً… وأنْ نعمل على ترسيخها والتمكين لها في مختلف الحقول (…) فلا بدّ من أنْ نلفظ من قاموسها مفردات: العرقية، القطرية، العصبية، القبلية، الفئوية، الطائفية، المذهبية، الحزبية ((الشرنقية))، الإيديولوجية الانعزالية، التكفيرية، التضييق والشدة والانغلاق، والتعصّب الأعمى الذي يذهب بالبصر والبصيرة والقلب معاً وفي آن واحد. وفي النتيجة لا بدّ من أنْ تكون الهوية القومية/ الوطنية حالة حضارية ذات أفق تقدمي، ديمقراطي، علماني، منفتح، متعدد الألوان، سَمْح وإنساني لا يقبل، من حيث المبدأ، الإلغاء والإقصاء والتهميش والإرهاب بكل مظاهره وجنباته، ويرفض العنف بأشكاله المختلفة وتجلياته المتعددة… لأنّ الحضارة لن تكتسب الصفة الإنسانية بصورة نهائية إلا إذا ألغتْ بصورة نهائية مبدأ العنف في علاقات الإنسان بالإنسان وبالعالم…

من الهام التنبيه إلى خطورة الانغلاق والعزلة بحجة المحافظة على الهوية القومية تحت شعارات الأصالة والخصوصية.. ولكن ثمة مخاطر من الانفتاح دون شروط، لأنه يذيب الهوية ويعرضها للتلاشي والاضمحلال مع مرور الزمن. علينا أن نوفق بين ما نأخذ من غيرنا، وما نستخلصه من تراثنا القومي الإنساني بما يخدم الحاضر ويستجيب لمقتضيات المستقبل.

العدد 1105 - 01/5/2024