روسيا وسياسة الندية للغرب

منذ أن بدأت روسيا تنهض من كبوتها وتستعيد دورها الدولي قطباً موازياً للولايات المتحدة التي انفردت فيما مضى بقيادة العالم وفقاً لمصالحها ولمصالح حلفائها الغربيين، عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على التصدي لهذا النهوض الروسي والحد منه، بحرب باردة جديدة تشنها عليها على غرار الحرب المماثلة التي امتدت لسنوات طويلة ضد الاتحاد السوفييتي السابق. وقد اشتدت هذه الحرب بعد أن لاحظت واشنطن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ماضٍ في طريق استعادة هيبة بلاده وتعزيز دورها ومكانتها على الصعيد الدولي، على قاعدة المشاركة في صنع القرارات الدولية، وإحلال عالم جديد تنتفي منه ظاهرة الهيمنة الأمريكية على إرادة الشعوب والدول ونهب خيراتها والتدخل في شؤونها الداخلية تحت ذرائع واهية.

في سياق المحاولات الأمريكية والغربية للتأثير على النهوض الروسي، جاءت سياسة اجتذاب دول أوربا الشرقية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي إلى حلف الناتو، ومحاولات تطويق روسيا عسكرياً من خلال نصب الدرع الصاروخية في بعض الدول المذكورة.

بعد ذلك عمل الغرب على اختلاق أزمة أوكرانيا، عندما شجع ودعم مجموعة من الانفصاليين من عملائه وممن لديهم ميول غربية وحتى نازية، وساعدهم على الانقضاض على السلطة في أوكرانيا واغتصابها، ورفض كل العروض التي قدمت للتفاوض بينهم وبين السلطة الشرعية التي كانت قائمة في كييف.

وبعد أن نجح الجمهوريون في السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات التشريعية الأمريكية الأخيرة، وحاصروا الرئيس أوباما وحزبه، عملوا على سنّ قانون (دعم الحرية في أوكرانيا)، الذي يتضمن فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وتقديم أسلحة فتاكة وحديثة إلى سلطات كييف. وألغى البرلمان الأوكراني قانون (حياد أوكرانيا)، كما أعلن الرئيس الأوكراني ورئيس وزرائه وسياسيون آخرون عديدون عن رغبتهم الشديدة في الانضمام إلى كل الاتفاقيات والهيئات الغربية، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي.

من جهته حاول الغرب، وما يزال، توسيع العقوبات على روسيا وتشديدها في ثلاثة قطاعات: المصرفي والطاقة والأسلحة. وبطبيعة الحال فإن هذه العقوبات تهدف إلى شل عصب الاقتصاد الروسي وضرب سيولته النقدية.. وقد قام الرئيس الأمريكي بالتوقيع على قانون (دعم حرية أوكرانيا) الذي أشرنا إليه قبل قليل، وفرض عقوبات جديدة على روسيا منها: منع تصدير البضائع والتقنيات والخدمات إلى شبه جزيرة القرم، كما أن الاتحاد الأوربي حظر على دوله تصدير البضائع والاستثمار والتجارة إلى شبه جزيرة القرم، كندا أيضاً منعت تصدير التكنولوجيا المستخدمة في قطاعي النفط والغاز إلى السلطات في القرم.. كذلك دبرت واشنطن وحلفاؤها وعملاؤها على الساحة العربية من دول النفط مؤامرة انخفاض أسعار النفط عالمياً إلى ما دون النصف، أي أقل من 60 دولاراً للبرميل الواحد، وذلك بهدف التأثير على روسيا وإرهاقها اقتصادياً، وهذا ما أدركته موسكو منذ الوهلة الأولى، لاسيما أنها ضبطت (وفق ما أعلنته في بيان رسمي) عملاء أمريكيين في البورصة يعملون لتخريب أسعار العملات الصعبة وتقليل سعر صرف الروبل بالنسبة للعملات الأخرى.. وبالفعل بلغت خسائر روسيا بسبب العقوبات وانخفاض أسعار النفط نحو 120 مليار دولار حتى الآن.. ولكن هل وقفت روسيا مكتوفة الأيدي حيال كل ذلك؟ بالطبع الجواب لا. فهي رفضت وما تزال أي توسع لحلف الأطلسي باتجاه حدودها، ووعدت بالرد على كل إجراء في هذا الاتجاه فوراً، وساعدت شبه جزيرة القرم على تحقيق إرادة شعبها في الاستقلال بشكل ديمقراطي وشفاف، كما أنها ساعدت ولاتزال تساعد الروس الموجودين في أوكرانيا والناطقين باللغة الروسية هناك لمجابهة محاولات اضطهادهم وقمعهم من قبل الحكومة الأوكرانية الجديدة، وفي الوقت نفسه لاتزال موسكو تبذل جهوداً مخلصة لحل الأزمة الأوكرانية سلمياً، بما يحافظ على وحدة أرضها وشعبها.

وفي سياق الرد الروسي على العقوبات الغربية على روسيا، وقّع الرئيس الروسي بوتين مؤخراً على قانون (العقيدة العسكرية الروسية الجديدة) الذي يشمل على نقاط هامة منها:

1- أولوية مجابهة أخطار حلف شمال الأطلسي.

2- تكليف الجيش الروسي بتأمين المصالح الوطنية لروسيا، وخاصة في منطقة القطب الشمالي (التي هي منطقة تماس مع أمريكا).

3- تحديد 14 خطراً يواجه روسيا حالياً ومستقبلاً، منها الانتباه الشديد لما يسمى الضربات الأمريكية الفورية التي تحتاج إلى ساعة واحدة فقط لإقرارها وتنفيذها.

4- مجابهة الاستخبارات الأجنبية والهيئات الساعية لتخريب روسيا وتدمير أمنها.

5- مواجهة التهديدات المتصاعدة للتطرف والإرهاب.

6- حق روسيا في استعمال الأسلحة النووية للأغراض الدفاعية (وهذا من أهم بنود العقيدة الجديدة).

أما في المجال الاقتصادي، فقد قامت روسيا برفع سعر الفائدة الأساسية على الروبل، وتجميد أسعار العديد من السلع، وذلك في إطار الحفاظ على استقرار الوضع الاقتصادي الروسي.

ولقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب قريب له (أنه ليس بمقدور أحد عزل روسيا أو إرهابها)، كما صرح بعد أن فوضه البرلمان الروسي (مجلس الدوما) باتخاذه ما يراه مناسباً من قرارات لحماية الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا، صرح قائلاً: (آمل أن لا أضطر إلى استخدام هذا الحق، وأن نتمكن من حل المشكلات الخطرة بالوسائل السياسية والدبلوماسية). كذلك وجه الرئيس بوتين بزيادة إنتاج نظم للصواريخ المضادة للصواريخ والمضادة للطائرات وبضمنها صواريخ (إس 300)، وهذا التوجيه يعني ما يعنيه في المجال العسكري! وأمريكا قبل غيرها تعرف ما يعنيه.

باختصار، إن الأمر الثابت والمؤكد أن روسيا (والرئيس بوتين شخصياً) لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات تحجيم دورها والتأثير على نهوضها الجديد لاستعادة مكانتها قطباً موازياً لأمريكا وشريكاً في صنع القرار الدولي.. وبالنسبة لأوكرانيا ودول البلطيق وبلاروسيا، فإن هذه الدول هي عامل استراتيجي مهم في الحسابات الروسية القريبة منها والبعيدة، وبالتالي لا مجال للتسليم الروسي للناتو بنشر قواعد صاروخية له على أراضي الدول المجاورة لروسيا، ولا مجال للتسليم لأمريكا بأن تحل المشاكل الدولية حسب مصالحها ومصالح حلفائها وعملائها.

إن الشعب الروسي معروف بطيبته وبشجاعته وبمساعداته للشعوب الأخرى، ولكنه يستفز إذا ما لامس عدو شعوره القومي، وكما هو معروف، الروس أوقفوا زحف نابليون، وهزموا القوات النازية على أبواب موسكو، وهم قادرون على إلحاق الهزيمة بأمريكا وحلفائها إذا حاولت النيل منهم.

العدد 1107 - 22/5/2024