المسألة التنظيمية وارتباطها بالواقع الاجتماعي

 تنشأ الأحزاب بشكل موضوعي، تملي وجودَها الضروراتُ التاريخية والمصالح الاجتماعية المتباينة.. فهي إذاً لا تنشأ بقرار ولا تلغى بقرار أيضاً، وبالتالي فإن أي حزب ينشأ نتيجة تلك الضرورات، وينتهي دوره ويزول إذا انتفت مبررات وجوده.

وإذا استعرضنا تاريخ الأحزاب نرى أن هناك الكثير منها التي نشأت في فترات تاريخية معينة، اضمحلت وزالت في ظروف تاريخية أخرى عندما انتفت ضروراتها الاجتماعية والسياسية، وقد تنتهي مبررات وجود حزب إذا لم يستطع أن يستجيب لحاجات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، على الرغم من أن هذه الضرورات لاتزال قائمة. ومن هنا فإن تطور الحزب باستمرار على جميع الأصعدة هو الذي يجعل منه حزباً حياً متجدداً باستمرار، ويجعل منه ممثلاً حقيقياً للفئة الاجتماعية التي ولدته.

إن الجماعة المنظمة إذاً هي جماعة متطورة وليست ثابتة، وإن أساليب قيادتها يجب أن تأخذ بالحسبان حركة هذه الجماعة المنظمة وتطورها، وإلا سيكون هناك صراع معها، إذ لا يمكن قيادة حزب وهو جماعة منظمة الآن، في عصر ثورة الاتصالات والمعلوماتية، بأساليب، على سبيل المثال تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

إن تلبية متطلبات التطور سواء في التنظيم، أو في الفكر أو في السياسة، هي أساسية في استمرار هذا الحزب أو هذه الحركة وبقائه/ها، والعجز عن تلبية هذه المتطلبات يمكن أن يؤدي بهذا الحزب أو هذه الحركة إلى التوقف عن الوجود.. وكم من الحركات انتهت لأنها تخلفت عن مواكبة التطور الاجتماعي وحركته المستمرة، فالتنظيم إذاً هو نتائج الواقع الاجتماعي في تطوره المستمر، والأشكال التنظيمية لأي مجموعة بشرية منظمة تعكس هذا الواقع المتطور.

لقد بدأت الأحزاب بأشكال تنظيمية بدائية وتطورت إلى وقتنا الحاضر، ويقود الجمود في الأشكال التنظيمية لأي حزب الذي لا يراعي تطور الواقع الاجتماعي، إلى جعل هذا الحزب غير قادر على تلبية المتطلبات التي تطرحها الحياة أمامه، ويؤدي إلى تقوقعه، وانحساره، وتحويله إلى مصدر نابذ لكوادره التي تتطور، ولم تعد تلائمها تلك الأشكال التنظيمة.

إن تلمس حركة الواقع وانعكاس ذلك على البنى التنظيمية هي ضرورة أكدتها وتؤكدها مسيرة تطور الكثير من الأحزاب، ومصيرها اللاحق.

وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى مسألتين هامتين بالنسبة لأي حزب يطمح إلى أن يكون له دور في المساهمة في تغيير الواقع الاجتماعي، وهما مسألة التنوع والوحدة.

لقد تبنت الكثير من الأحزاب شعار الوحدة، وكانت مؤتمراتها تعقد تحت هذا الشعار، ورغم ذلك لم يضمن هذا الشعار وحدة هذا الحزب أو ذاك. كانت العمليات الانقسامية تحدث باستمرار.. لم يستطع هذا الشعار تأمين الوحدة الحقيقية لهذه الأحزاب.. فما السبب؟ لقد أغفلت هذه الأحزاب موضوعة هامة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الوحدة، إنها مسألة التنوع. الوحدة والتنوع ملتزمان أحدهما بالآخر، التنوع هو قانون حركة الحزب وتطوره، والوحدة هي الإطار الذي تجري في داخله هذه الحركة وهذا التطور. إن إغفال أي منهما سيكون له نتائجه الكارثية على الحزب.

لقد أدى إغفال التنوع إلى جمود الكثير من الأحزاب، وإلى تخلفها، وغياب الديمقراطية عن حياتها الداخلية، وعدم قدرتها على ملاقاة الجديد والارتفاع إلى مستواه، وعدم استطاعتها تقديم نفسها أمام المجتمع نموذجاً ديمقراطياً، وأدى إلى سلوك مسالك التآمر والتصفيات في الصراع على المراكز القيادية فيها وتغلغل الانتهازية إلى صفوفها، وضعف تطورها السياسي والفكري وتفشي البيروقراطية ضمن إطارها، وإلى تغرّب كادراتها المتطورة، وإلى ازدواجية المعايير فيها، وإلى انحطاطها في خاتمة المطاف.

إن دور الحزب يتلخص في تلمّسه للمنحى العام لعملية التطور، واتخاذه ما هو ضروري في هذا السياق كي يتمكن من تعبئة الجمهور باتجاه أن يخدم هذا التطور المصالح الحقيقية للشعب. إن رفض التنوع قد أدى بالكثير من الأحزاب إلى عدم تلمس حركة الواقع بصورة حقيقية، وتفسيرها من منظور ذاتي لا يستند إلى قراءات موضوعية. إن التنوع هو محتوى الحزب، ووحدته هي إطار. ولقد أدى خرق هذه القاعدة إلى إفقاد الحزب طابعه الجماهيري الحي، وفقدانه التدريجي للفئات الاجتماعية التي أعلن أنه يمثلها، وفقدان المبررات التاريخية لوجوده.

ولابد هنا من التعرض لمسألة على درجة من الأهمية، لم يحدث سابقاً الفصل بين مكوناتها وهي الحركة والحزب والتيار. إن مفهوم الحركة هو أوسع من مفهومي الحزب مع التيار، لأنها تحوي في داخلها أكثر من حزب وأكثر من تيار، فالحركة العمالية على سبيل المثال تعكس مجموعة من الأحزاب والتيارات المنبعثة عن الطبقة العاملة. أما الحزب فمفهومه أضيق، ولكن قد يتحول الحزب إلى حركة إذا كان إطاره التنظيمي واسعاً وديمقراطياً، ويحوي في داخله مختلف التيارات الموجودة واقعياً في وسط الفئة الاجتماعية التي يمثلها الحزب. ولابد من الإشارة هنا إلى أن ثبات الأطر التنظيمية في الحزب وانغلاقها يؤدي إلى تقوقعه وانعزاله تدريجياً عن الحركة، فبمقدار ما يكون الحزب قادراً على استيعاب مختلف الأطياف، وصهرها في بنية تنظيمية ديمقراطية، وصياغة برنامج يمثل الحد الأدنى الذي يجمع مختلف هذه الأطياف في مرحلة معينة من مراحل التطور بمقدار ما يتحول هذا الحزب إلى حركة.

أما بشأن الإيديولوجيا فإن التعامل معها من قبل أي حزب من منطق سكوني فسيؤدي ذلك إلى الجمود. إن الإيديولوجيا التي هي عبارة عن مجمل النظرات والأفكار السياسية والحقوقية والأخلاقية والجمالية وغيرها يتم فيها تقييم وإدراك علاقات الناس تجاه الواقع يجب ألا يتم التعامل معها من منطلق القيم المطلقة، إنها ليست كذلك.. إن جميع القيم متطورة وإن إعطاء الإيديولوجيا محتواها الفلسفي يجعل منها قادرة على تلمس الواقع في حركته المستمرة. كما أن الإيديولوجيا لا تقوم على فراغ، بل على استخدام المادة الفكرية التي تراكمت خلال سير التطور السابق.

إن الإيديولوجيا الجديدة تأخذ قسماً من هذه المادة وتستخدمه في الشروط الجديدة، وتهمل ما تبقى، وهذا ما يسمى بالتواصل أو التتابع في تطور الحياة المادية والروحية للمجتمع.. فالإيديولوجيا هي إذاً منظومة متطورة وغير سكونية.

في الخاتمة لكل حزب إيديولوجيا، أي نظرة عامة للحياة والمجتمع، بيد أنها إذا فقدت محتواها الفلسفي وفقدت ديناميكيتها وحيويتها وانفتاحها، ونظر إليها كشيء مطلق، ستمارس تأثيرها السلبي على ذلك الحزب، وستودي به إلى الكثير من الجمود والكثير من الإخفاقات.

العدد 1104 - 24/4/2024