انتشار ثقافة العولمة والهوية (2) …غياب الجذور الحضارية

من العوامل الأخرى التي دفعت إلى ظهور الثقافة الاستهلاكية الأمريكية غيابُ الجذور الحضارية للمجتمع الأمريكي من جانب، والاعتماد على العلم التجريبي من جانب آخر. فبالنسبة لغياب الجذور الحضارية، لا يمثل المجتمع الأمريكي الهجين تطوراً حضارياً بالمعنى الحقيقي وخاصة في المجتمع الأمريكية نفسه، وإذا كانت هناك حضارة فهي للسكان الأصليين وهم الهنود الحمر الذين واجهوا أصنافاً عديدة من الإبادة على مدى فترات مختلفة، منذ اكتشاف الأمريكيتين من قبل الأوربيين، وأدت في النهاية لضمور ثقافتهم وتاريخهم الحضاري.. وبالمقارنة مع أوربا سنجد أنها تطورت حضارياً منذ الحضارات أو التجمعات السكانية القديمة فيها، وقد كانت الحضارة اليونانية من أبرز الحضارات ذات البعد الإنساني الذي تبلورت فيها الكثير من القضايا المتعلقة بالإنسان والوجود في العالم القديم.

وجذور الحضارة الأوربية تمتد من عند اليونان، مروراً بالعصور الوسطى وعصر النهضة، ومن ثم عصر التنوير الذي شهد مولد التفكير العقلي المؤسَّس على العلم والتفكير العقلاني والنزعة الإنسانية، ولاشك أن هذا التطور، خصوصاً العلمي، تزامنت معه التحولات التي ظهرت في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وظهور الحقوق المدنية وغيرها من المظاهر الأخرى التي يشكل الكثير من مظاهر الحياة المعاصرة امتداداً لها.

أما بالنسبة للتطور العلمي الذي سار في خطا ثابتة في أمريكا، فقد كانت القارة الأمريكية أرضاً بكراً وخصبة للمغامرة والاستكشاف الذي غلب عليه الطابع العلمي، وأرضاً لاستقطاب المهاجرين، وعليه بدأت حركة لهجرة العلماء من مختلف بقاع العالم، خصوصاً من أوربا الحبلى بالأحداث والصراعات السياسية والعسكرية وعدم الاستقرار، ثم تبعتها هجرة المثقفين والفلاسفة والمفكرين من شتى فروع المعرفة الإنسانية، وقد كان للتقدم العلمي التجريبي وازدهاره والتطور التكنولوجي الذي نتج عنه أخيراً أثر كبير على العقلية والثقافة الأمريكية الدارجة.

فالعلم التجريبي يبحث عن الأمور المادية ولا يتعلق بحثه ونتائجه وقوانينه بما هو قيمي أو معنوي، وكان لهذا عظيم الأثر على طريقة التفكير التي دعمتها الروح البراغماتية، من حيث رفضها للاعتقادات القائمة على المسلمات والبديهيات والتي لم تضع عائقاً فكرياً أو إيديولوجياً في وجه التطورات العلمية والتكنولوجية التي جاءت بأدوات يستخدمها المرء في حياته اليومية، والتي أثرت بشكل غير مسبوق على طريقة حياة الفرد وعقليته وممارساته، ونظراً للتطور غير المحدود للعلم والصناعة والتكنولوجيا، أصبح مسلك الإنسان وحياته كلها معتمدة عليه، بل ومتأثرة باستمرار بما ينتجه من أدوات وآلات تستخدم في حياة المجتمع العملية. فأصبح تأثير العلم على العقلية السائدة في المجتمع الأمريكي كبيراً، ويعزز من مادية التفكير وواقعيته ، وصار مسلك الإنسان يعتمد على ما ينتجه العلم، وهذا يترك بلا شك أثاراً على تفكير الإنسان وحياته وقيمه، وقد عزز ذلك بالدفع في الثقافة الاستهلاكية القائمة إلى اقتناء المنتجات الصناعية والتكنولوجية، وأصبحت قيمة الإنسان أو الآخرين تُحدّد من خلال ما يقتنيه من أشياء.

شكلت العوامل السابقة أساساً لظهور الثقافة الاستهلاكية بشتى مظاهرها وممارساتها في الولايات المتحدة الأمريكية، وأخذت تشق طريقها أخيراً إلى بقاع مختلفة من المعمورة، لكن الموضوعية تقتضي القول، إنه في مقابل الجوانب السلبية التي جاءت بها هذه العوامل تجاه مفهوم الهوية أو الثقافة ذات الأبعاد الإنسانية بقيمها واعتقاداتها، فقد ساهمت في بناء الدولة الأقوى في عالم اليوم، إذ تخلّص الأمريكيون من أوهام العرق وتعتير وتقيد العقل بمسلمات غير قابلة للجدل، التي يمكن أن تعيق عمل العقل وتطوره، وبنوا دولة أصبحت أكبر دولة تستقطب الموهوبين والعلماء في العالم، من شتى ضروب المعرفة.

أين الهوية؟

ساهمت عوامل عدة في انتشار الثقافة الأمريكية في مختلف بلدان العالم، إذ لم يعد الأمر يتعلق بشعوب العالم الثالث، بل هناك قطاع من مختلف الشعوب الأوربية والدول الصناعية الأخرى كاليابان على سبيل المثال وغيرها، أخذت تتأثر بهذه الثقافة، التي تنتشر عبر وسائل الاتصال المتطور ونقل المعلومة والشركات الأمريكية متعددة الجنسيات.

لقد لعب اللاقط الهوائي وشبكة الإنترنت دوراً مهماً في توصيل الكثير من الجوانب المتعلقة بالثقافة الاستهلاكية، إذ تفتحت ذهنية الأجيال الجديدة على كمّ كبير من المعلومات المرئية والمقروءة، والتي تعكس في أغلبها جوانب مختلفة من الثقافة الأمريكية على وجه الخصوص، بحيث غابت عنها أي مفاهيم ثقافية ذات أبعاد فكرية وإنسانية، وتسيّدت فيها مادة تحتوي على أنماط مختلفة من الاستهلاك، وتخاطب الغرائز الإنسانية، فنرى طغيان القيم الاستهلاكية، والشكليات والكماليات والمظاهر والخواء الداخلي والفكري لدى الكثيرين ممن يتأثرون بهذه الثقافة التي شيّأت الإنسان وجعلته أسيراً لغرائزه، وازدادت ظواهر العنف التي تتضمنها هذه الثقافة بين أبناء شعوب العالم الثالث، وأصبحت تشكل ظاهرة عالمية.

في مقابل ذلك، نرى تراجعاً كبيراً في الثقافات التقليدية لتلك الشعوب، والتلاشي التدريجي لهوياتها، وخضوعها للمؤثرات الخارجية الثقافية. وقد عزز هذا الأمرَ الانتشارُ الاقتصادي الكبير للشركات متعددة الجنسيات، التي هي في أغلبها أمريكية، إذ أخذ يعمل الكثير منها في عدد من دول العالم الثالث عبر فتح الشركات التجارية والبنوك والمصانع وغيرها من المصالح. وعلى الرغم من وجود جانب إيجابي في هذه المسألة، يتعلق بنقل العلوم والتكنولوجيا وأساليب الإدارة الحديثة، فإن هناك جوانب سلبية أبرزها نشر جوانب من الثقافة القادمة من الخارج، على حساب ثقافة وهويات شعوب دول العالم الثالث. هناك الكثير من الشركات التي تحرص على خلق نوع من القبول الثقافي لها ولإنتاجها، وما يهمّها بالدرجة الأولى هو تسويق منتجاتها لهذه الشعوب، وهذا يعني الدفع بجوانب عدة من الثقافة الاستهلاكية التي تساعد على تسويق مصنوعاتها، وتحويل هذه الدول إلى أسواق تنشر من خلالها القيم الثقافية التجارية والاستهلاكية.

ومن جانب آخر، ونظراً لقوة الولايات المتحدة الأمريكية السياسية والاقتصادية، فقد أصبحت الدولة النموذج التي يتطلع إليها الكثيرون، وخصوصاً من أبناء العالم الثالث، لمحاكاته ونقله إلى بلدانهم، لدرجة أصبحت مقولة الحلم الأمريكي تستحوذ على عقولهم، فهناك الكثيرون ممن يرغبون بالهجرة والعمل فيها، بل والحصول على جنسيتها، وآخرون يرغبون في محاكاة نموذجها الثقافي. ومع الأسف فإن ما تحاكيه الأغلبية هو أسوأ ما في ثقافتها من فنون ومظاهر مبتذلة وقيم استهلاكية، لأنها أسرع في التقليد، بينما يغيب عن هؤلاء أبرز العوامل التي ساهمت في تقدمها من تفكير علمي وتعليم عال وتطور صناعي وتكنولوجي وأساليب إدارة معاصرة وغيرها. ولعل أسوأ ما نراه عند من يحاكون هذا النموذج، قضية لها حضورها بينهم وهي تعكس بالفعل ما حدث في المجتمع الأمريكي سابقاً، ألا وهي قضية الانتماء.

فعندما بحث الأمريكيون عن وسيلة توحّد الأعراق والقوميات والثقافات المختلفة التي تكوّن مجتمعهم، رأوا ضرورة التخلي عن انتماءاتهم السابقة، وخلق واقع جديد يعتمد على الممارسة العملية أساساً، واستبعاد الجوانب النظرية التي يمكن أن تكون عامل تفرقة بينهم. إن ما يفتقد إليه الجيل الجديد في العديد من مجتمعات العالم الثالث، هو الانتماء، فهم لا ينتمون إلى ثقافتهم وهويتهم ولا يعيشون في مجتمعات تحمل الثقافة الغربية الحالية ويستطيعون ممارسة طقوس تلك الثقافة وأنماط سلوكها.

فهم أقرب إلى العيش في حالة من الاغتراب والازدواجية. إن عدم الانتماء يجعلهم يعيشون في حالة هي أشبه بالضياع وغياب أي رؤى اجتماعية توحدهم على قيم وأهداف مشتركة، بل على العكس من ذلك، فالثقافة الاستهلاكية تعزز الجوانب الفردية والذاتية، التي قد تصل إلى الأنانية، وتقود صاحبها لتقديم اهتماماته الشخصية على أي اعتبارات تتعلق بالجماعات أو المجتمع، ولا يقابل ذلك محاولات جادة تعمل على إيجاد جوانب نظرية وقيمية متقدمة لتطوير مفاهيمها وثقافاتها بشكل يواكب التطور، الذي يسير بوتيرة سريعة، بحيث تحافظ على جوانب عدة من هويتها بما تتضمنه من قيم وممارسات وإرث ثقافي، خصوصاً العقلاني والإنساني منه.

وفي الختام لابد من الإشارة إلى أمرين مهمين:

الأول – إن ما جاء في هذه المقالة هو محاولة تحليل للأسس والجذور التي قامت عليها جوانب من ثقافة العولمة الحالية، في ظل عالم تتقدمه الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً واقتصادياً، وليس نقداً سلبياً لها، وإن كانت هناك ملاحظات ووجهات نظر لدينا تعترض على جوانب كثيرة منها، كما أنها لا تحلل هذه الثقافة من زاوية سياسية.

ثانياً – إنها الكيفية التي يمكن أن نتعامل بها مع هذه الثقافة، ومظاهر مختلفة من الثقافات الأخرى بعد تحول العولمة التدريجي إلى أمر واقع. هناك حتى الآن رؤيتان مختلفتان بشأن التعامل مع ما يحدث في العالم من تطورات، وكلتاهما حسب رأيي خاطئ، الأولى ترفض رفضاً تاماً أيّ شكل من أشكل التعامل مع هذه الثقافة، وحتى ثقافات أخرى قد يكون لها طابعها المميز، وتدعو إلى الانغلاق والتقوقع والانكماش الذاتي، والثانية التي تقلد النموذج الثقافي الغربي الحالي بحذافيره وتلغي هويتها وتراثها وقيمها بشكل تام، وكأنها ظاهرة مقتلعة الجذور في مجتمعاتها، وتعيش في حالة فصام معها.

لا يمكن التعامل مع ثقافة العولمة من هاتين الرؤيتين، بل يجب التعالم معها من منظور عقلاني نقدي، وهذا يتطلب النظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لا على أنها كتلة متكاملة من الشر أو الغطرسة السياسية، بل يجب التمييز بين ما يصدر عنها من أفعال وممارسات سياسية، ودراسة العوامل التي ساهمت في بروز هذا المجتمع الهجيني خلال فترة وجيزة وتسيّده العالم وقيادته علمياً وثقافياً.

هناك من الأمور ما يصلح لنا ويطور أساليب الحياة والإنتاج في مجتمعاتنا، والمطلوب الأخذ بها وتطبيقها على واقعنا، وهي الأمور الجوهرية التي حققت التقدم والتطوير، ومنها استقلالية القضاء، والأخذ بالعلم والتفكير العلمي، والحرص على التقدم الصناعي والعلمي.. إلى آخره من الأمور التي ساهمت في تقدم المجتمع الأمريكي وتطوره، وفي المقابل عندما يُبحث في موضوع الهوية العربية والمحلية يجب أن يكون ذلك بشكل نقدي وجريء ليستوعب التغييرات التي تحدث في مجتمعاتنا، والعمل على المحافظة على الأوجه الإنسانية والحضارية في هويتنا وثقافتنا.

العدد 1104 - 24/4/2024