بقي الشاعر.. ومضى السجّان…

ناظم حكمت.. شاعر مناضل وحّد بين كلمته وموقفه، فلم يُقم أي مسافة بين فكره المعلن وفكره المعيش.. كذلك وحّد الشاعر التركي العالمي بين فكره وإبداعه بعيداً عن أي تكلف أو تصنع أو افتعال وختل.. وبقي حتى لحظة انطفاء جسده (1963) وفياً مخلصاً لهذه الأقانيم…

ثار على الأشكال العروضية في الشعر التركي، واصطنع وزناً حرّاً فيه نمط جديد من الإيقاعات والمقاطع المتدرجة.. وكان يبحث دون كلل أو ملل عن أشكال شعرية جديدة تتناغم وتتسق مع المحتوى الشعري الجديد لديه، إلى جانب مختلف العناصر الشكلية الكلاسيكية للشعر، ومن ثم استطاع أن يجدد في الحقل الشعري شكلاً ومضموناً ولغة وتعبيراً ورؤية، ونظرة جديدة إلى العالم والمجتمع والناس والحياة والكون.. وناظم حكمت ناضل نضالاً لا هوادة فيه ضد الرجعية والفاشية وحليفيهما الاستعمار والرأسمالية، وحمل في العميق منه قضية وطنه وشعبه، وقضايا جميع الشعوب المعذبة، المضطهدة، المظلومة والمهمشة.. ودافع عنها بوعي وثبات واقتدار.. وكتب عن الإنسان المقهور، المحروم الجائع.. وعبر عن أوجاعه ومعاناته وآلامه وآماله وطموحاته وأحلامه.. ودعا من خلال إبداعاته إلى بناء عالم جديد دعائمه الأساسية العدالة، والحرية، والحب، والإنسان.. فالإنسان كما يقول باسكال ما سوف يكون. ونحن نستطيع أن نساعد في تكوين هذا الإنسان؛ نرفعه إلى أعلى، أو نهبط به إلى أدنى.. وإبداعات ناظم حكمت انتصرت للفن والإنسان معاً وفي آن واحد.

ودخل الشاعر السجن، ومكث فيه سنوات طوالاً، كتب خلالها أجمل أشعاره، ولا سيما قصائده الموجهة إلى زوجته «منور»، فقد سالت كلماته قطرات ندية، حانية، عذبة.. وفي لحظات التخيل، حين تتقارب الأبعاد، وتنهدم الحواجز بين من هم في الداخل ومن هم في الخارج، كان ناظم حكمت ينطلق من سجنه إلى شعبه، إلى وطنه، إلى العالم، إلى من يحب… يكلمهم ويصغي إليهم، ويبثهم حبه وحنينه وعاطفته النبيلة.. ويخزن في صدره حبهم وشوقهم وعواطفهم الدافئة.. كأنما لا سجن، ولا زنزانات، ولا قيود وسلاسل…

أخرجي من صندوقك الثوب

الذي كنت ترتدينه يوم لقائنا الأول

تجمّلي كشجرة في الربيع..

وبغدائرك علّقي القرنفلة التي أرسلتها

لك داخل مكتوب من السجن..

اكشفي عن جبينك العريض الأبيض

الجبين الذي أرغب أن أقبّله..

فليس هذا اليوم للانكسار، ولا للحزن

بل على العكس يجب أن تكون جميلة،

كراية المعركة، رفيقة ناظم حكمت…

يمضي السجانون والقتلة والغاشمون والمتخاذلون والثرثارون وأشباه الرجال… وتمضي غرف التوقيف والزنزانات وأقبية التعذيب.. ويبقى الشاعر والشعر، يبقى ناظم حكمت حيّاً في الضمائر الحرة، الأبية.. وتبقى إبداعاته تنادينا، وتستدعينا لبناء عالم جديد ينبت خيراً وعدلاً وحرية وتقدماً… ويمحق شراً واستغلالاً وظلماً وتخلفاً.

العدد 1105 - 01/5/2024