أنسنة السياسة!

 يسود اعتقاد راسخ لدى قطاعات واسعة من جماهير الشعب بأن السياسة هي فن التآمر والضحك على الذقون وخداع الناس. لذلك نرى هذه الجماهير، في كثير من الأحيان، تنظر إلى السياسة بعين الاحتقار، وكأنها كلمة سيئة، أو كلمة  خارجة عن معايير الأخلاق. ويعود السبب في انتشار هذا المفهوم وسيطرته على عقول الكثير من أبناء شعبنا البسطاء، هو أنهم لم يلمسوا من السياسيين، في غالب الأحيان، إلا الخداع والكذب.. فالمرشح للانتخابات النيابية يتزلف للمواطنين ويكثر من الوعود بأنه سيعمل على تحقيق مصالحهم وإزالة المظالم عنهم، ولكنه عندما يصبح نائباً ينسى وعوده، حتى أنه لا يتنازل لتبرير سلوكه أمام من انتخبوه.

ولم ندرِ إلى الآن، أو نعلم أن مجلس الشعب، على سبيل المثال، الذي يمثل مجموع النواب قدّم أمام الشعب حصيلة ما قام به خلال وجوده في هذا المجلس. ولم نعلم أيضاً بوجود نائب واحد، على الأقل، قدّم للناخبين ما قام به تجاه المواطنين الذين انتخبوه، ولقد اعتاد المواطن السوري أن تتكرر هذه العملية في كل دورة انتخابية، ولذلك فإن المتتبع لهذه الدورة يرى تراجعاً سريعاً ومستمراً في عدد الذين يدلون بأصواتهم. وينطبق هذا الأمر كذلك، على الحكومات المتعاقبة التي مرّت على البلاد، يكثرون الوعود والحصيلة معاكسة لها. كما أن سياسات الدول، كما تراها أغلبية المواطنين، قد عززت لدى المواطن هذا التصور عن السياسة التي تكلمنا عنها أعلاه.

صحيح أن السياسة هي علم اجتماعي، وصحيح أنها تعبر عن مصالح اقتصادية اجتماعية وعن مصالح دول، وصحيح أنها فن الممكن.. إلا أن مستوى التطور الإنساني لم يصل إلى تلك الدرجة التي من الممكن أن تعبر فيه عن مصالح الإنسانية جمعاء. لا تزال السياسة إلى الآن تعبر عن مصالح فئوية، وفي كثير من الأحيان قد تتعارض مع المصالح الإنسانية العامة. ولنأخذ، على سبيل المثال، الموقف من البيئة: إن الاحتكارات الرأسمالية الكبيرة في سعيها المحموم وراء الربح والأسواق تدمّر الطبيعة، فقد بلغ التلوث في عدد من البلدان الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان حجوماً كبيرة مما يعرّض الإنسانية للأمراض والأخطار القاتلة. أو الحروب على سبيل المثال.

أية مصلحة للإنسانية في الحروب؟ الجواب: دون شك لا مصلحة لأي شعب بأن يحارب ضد شعب آخر. بيد أن الحروب تحصل باستمرار! لماذا؟ هل لمصلحة الإنسانية؟ أم لمصالح فئوية مغرضة ويموت بسببها الناس؟!. إن شعور المواطنين السلبي تجاه السياسة لا يعود إلى مفهوم علم السياسة بمقدار ما يعود إلى الممارسات السياسية التي تعبر عن مصالح فئوية تكون في كثير من الأحيان متعارضة مع المصلحة الإنسانية العليا.

أعتقد أن على البشرية التقدمية الآن أن تناضل بكل ما تملك من قوة من أجل أنسنة السياسة وجعلها معبّرة عن المصالح العليا للبشرية بأسرها. وهذا لن يحدث إذا لم يقترن ذلك الأمر بالنضال ضد الظلم والقهر والتمايز بين المجتمعات، الأمر الذي يرتبط، باعتقادي، ارتباطاً عضوياً بمستوى التحضر الإنساني ووعيه لحقيقة أن البشر جميعاً يعيشون في مركب واحد، فإذا غرق، غرق فيه الجميع!.

العدد 1105 - 01/5/2024