انتصرنا بالتحرير.. فلننتصر بالتغير!

 عشية احتفالات ذكرى التحرير، لا بد لنا من توجيه تحية إجلال وإكبار، للشهداء والمعتقلين والجرحى الذين صنعوا هذا العيد وحققوا الانتصار الكبير على المحتل الصهيوني، بدحره وصدّ عدوانيته، وتحريرهم للأرض من بيروت وصولاً إلى تخوم مزارع شبعا وتلال كفرشوبا: لأبطال المقاومة الوطنية اللبنانية والمقاومة الإسلامية والجيش اللبناني والقوى الأمنية، ولأهلنا شيوخاً ونساءً وأطفالاً، ولكل الشباب والشابات الذين واجهوا العدوان بصمودهم في أرضهم ودعمهم للمقاومة بمختلف السبل والأشكال، فكانوا مقاومين على كل المحاور: في الإعلام، وفي الدفاع المدني والصمود الشعبي، وشتى مجالات النضال والعمل مقيمين ومغتربين،  فلتضحيات هؤلاء جميعاً، ولشعبنا المقاوم وتاريخه الذي به نعتز ونفخر كل التحية والتقدير والعهد لهم في أن نبقى على درب المقاومة سائرين.

وإذا كان لدينا ما نقوله في هذه المناسبة فهو أنه في ظل المخاطر المتأتية من اتساع الإرهاب والعدوانية الإسرائيلية وحشد الأساطيل الغربية وتصاعد التآمر الأمريكي – الإسرائيلي  الرجعي العربي على القضية الفلسطينية والمنطقة عموماً، واستمرار التلكؤ في تسليح الجيش اللبناني، فإن الظروف باتت تستدعي من الشيوعيين ومن كل الوطنيين العمل لإحياء صيغة جديدة من العمل الوطني المقاوم والشامل المستند على الاستقلالية التي لا تفصل في جوهرها عملية التحرير عن عملية التغيير الديمقراطي الهادف لبناء دولة مقاومة.

عليه، فالاحتفال بالتحرير حق وواجب، إلا أنه يبقى ناقصاً ومهدداً ما لم يكتمل بالتغيير الديمقراطي. فأين نحن الآن من هذا التغيير حماية للتحرير؟ في ظل المخاطر التي تتهدده أيضاً من الداخل، من نظامنا الطائفي المذهبي ومما تتحفنا به هذه الأيام ثنائياته المذهبية الإلغائية في الانتخابات البلدية، وما تحضّره أيضاً للانتخابات النيابية من عودة لقانون الستين بهدف إعادة إنتاج الطبقة  السياسية الفاسدة عينها.

فمن موقع حزبنا المقاوم، وحماية لهذا الإنجاز العظيم المتمثل بالتحرير، أكدت مؤتمراتنا الوطنية بما فيها المؤتمر الحادي عشر، ارتباط قضية التحرير بالتغيير الديمقراطي معتبرة أن القضية واحدة، هي قضية بناء المرتكزات الأساسية للدولة المدنية العلمانية الديمقراطية المقاومة.

وهذا الإقرار بأولوية بناء الدولة الديمقراطية يعني تكثيف العمل في الأفق المنظور على تصحيح قوانين التمثيل السياسي القائمة تاريخياً على ركنين أساسيين رجعيين وكابحين للتطور – أحدهما طائفي والآخر أكثري -، والتي لم تفعل عبر صيغها المتوارثة منذ الاستقلال سوى مصادرة إرادة اللبنانيين وتشويه آليات تمثيلهم وتكريس الفساد والانقسام الطائفي والمجتمعي في البلد. ومن بين أبلغ التعبيرات عن هذا الواقع التشويهي، حصول اللوائح الخاسرة من مختلف القوى والتيارات، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر لوائح الحزب الشيوعي والقوى اليسارية والديمقراطية والمستقلين، في الانتخابات البلدية يوم الأحد الماضي على نحو 35% إلى 45% من أصوات المقترعين في بلدات جنوبية أساسية، من دون تمكنهم من التمثّل في مجالسها البلدية.

إن المحصلة البائسة والمدمرة للنتائج التي تمخّضت عن تطبيق تلك القوانين الانتخابية وعن سياسات المجالس النيابية المتعاقبة التي أنتجتها لم تعد سراً من الأسرار، بل هي باتت مكشوفة للعيان وتطول آثارها السلبية أوسع الفئات الاجتماعية في البلاد: طغيان الفساد على مقومات الحياة العامة، واستمرار ارتفاع العجز والدين العام، وانهيار شبه شامل في المرافق والخدمات العامة الأساسية، إضافة إلى تزايد جيش المتعطلين عن العمل وانتشار مظاهر الفقر  والتهميش الاجتماعي والهجرة إلى الخارج، كل ذلك وسط غياب شبه كامل لآليات المراقبة والمساءلة والمحاسبة.

وبالرغم من فداحة هذه المحصلة، فإن الرؤوس الحامية في كل من الأطراف الأساسية داخل الطبقة السياسية لا تزال تسعى إلى تحقيق واحد من أحد رهانين مدمرين وشبه مستحيلين: إما احتلال موقع الهيمنة ضمن ما يسمى (التوازن الطائفي) داخل الدولة ومؤسساتها، وإما التهديد بالانكفاء إلى الهيمنة داخل الطائفة، مع توسُّل أشكال مكتومة أو معلنة من اللامركزية السياسية ذات الطابع الكونفدرالي أو الفيدرالي، في بلد صغير كلبنان تتقاطع وتتداخل فيه على أكثر من صعيد، الأبعاد الجغرافية للمصالح الاقتصادية والاجتماعية القاعدية التي تطول الفئات الاجتماعية المختلفة.

إن الحزب الشيوعي يهمه أن يحدّد موقفه من المشاورات الرسمية وغير الرسمية الجارية راهناً حول قانون الانتخابات النيابية، مستنداً إلى التوجهات الأساسية التالية:

1- إن ما جرى ويجري تداوله مؤخراً في دوائر التشكيلات الطائفية المسيطرة، حول صيغة القانون الانتخابي النيابي المزمع الترويج له – بما في ذلك خصوصاً إمكان العودة إلى قانون الستين السيئ الصيت – يشكل تعبيراً واضحاً عن استمرار إيغال هذه التشكيلات في منحاها الاستئثاري المستبد والرامي إلى تزوير إرادة المواطنين وترسيخ إخضاعهم غير المشروط للزعامات الطائفية، المتوارثة والمستجدة، وللعصبيات الفئوية الضيقة التي كرَست تبعية هؤلاء المواطنين لتلك الزعامات، عبر شبكات من الفساد والإفساد وتوزيع فتات المنافع الشخصية والزبائنية. ويؤكد الحزب  رفضه القاطع لأي محاولة تقوم بها هذه القوى الطائفية لإعادة تعويم أي من صيغ التمثيل النيابي الطائفي السابقة، التي ثبت أنها أضحت مكلفة جداً، وقد أوصلت الدولة والاقتصاد والمجتمع إلى حافة الانهيار.

2-  إن الهدف الاستراتيجي للحزب كان، وما يزال يتمثل في إقرار قانون انتخابي عصري قائم على النسبية وخارج القيد الطائفي مع اعتماد لبنان دائرة واحدة، بحسب ما نصّت عليه وثائقه المتعاقبة منذ مشاركته الملموسة في إصدار البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية في أواسط السبعينيات. ويشكل انتزاع مثل هذا القانون الخطوة الأولى الملّحة للتمكن من إضعاف الخطاب المذهبي عموماً، ومن التفكيك التدريجي للظاهرة الطائفية المدمّرة للنسيج الاجتماعي، مع ما تخفيه من مصالح سياسية واقتصادية خاصة جداً، أمعنت كل أطراف الطبقة السياسية اللبنانية في استثمارها وإدارتها بأشكال ونسب متفاوتة.

ومن المؤكد أن الاكتفاء بالموقف المبدئي العام أو بالخطاب الإنشائي في التعامل مع مسألة إقرار القانون الانتخابي المنشود، لم يعد نافعاً أو مفيداً، بل إن الحزب سوف يبذل كل الجهد اللازم بغية بلورة خارطة طريق تنفيذية واضحة قادرة على توحيد كل القوى الديمقراطية والاجتماعية الطامحة نحو الانعتاق من الطائفية والمذهبية وتحقيق صحة التمثيل وشفافيته وشموليته.

3- إن الحزب يؤكد – بكلام أوضح – أنه سوف ينتقل من مجرد القول إلى معترك العمل الفعلي، وأنه سوف ينكبّ من دون كلل على تحويل موقفه العام المبدئي من قانون الانتخاب إلى ساحة فعلية للتحركات الشعبية المنتظمة في جميع المناطق التي تصادرها أو تحتكر النطق باسمها محادل الثنائيات الطائفية المهيمنة، التي عطّلت المبادرات البنّاءة للناس وانتقصت من كراماتهم ودفعتهم إلى الإحباط، بحسب ما أكّدته خصوصاً نسب الاقتراع المتدنية في العاصمة ومحيطها الواسع الذي يشكل بيضة القبّان في إطلاق عملية التغيير الديمقراطي على المستوى الوطني.

ويشدّد الحزب في هذا الإطار على أن التحركات الشعبية المستقبلية يجب أن تستخلص الدروس المناسبة من بعض حالات التشرذم التي رافقت سابقاً موجات الحراك البلدي والشعبي، بحيث لا يكون هناك فضل لناشط على آخر إلا بقدر مساهمته الفعلية في هذه التحركات. وينبغي بالتالي الحرص على مشاركة كل القوى اليسارية والديمقراطية – كلّ من موقعه وضمن ما يتقبّله من قواسم مشتركة – في إطلاق هذه المنازلات الشعبية الكبرى المنتظرة، وتطويرها.

4- إن الحزب الشيوعي يعتبر أن معركة الانتخابات البلدية، التي شارك فيها بنشاط مع قوى يسارية وديمقراطية متنوعة، تشكل لا مناسبة فقط لتثبيت النفوذ وتقرير الأوزان والأحجام، بل هي تنطوي على أهداف سياسية وإنمائية نبيلة في آن معاً. ففي الحقل السياسي تشكل هذه المعركة جزءاً لا يتجزأ من بناء مقومات الخيار الوطني الديمقراطي الذي يفتح الطريق، تدريجياً، أمام تقويض منطق الاصطفافات الطائفية الضيقة على اختلاف تسمياتها الثنائية والمتعددة الأطياف، وآلياتها ومحادلها.

وفي الحقل الإنمائي، تشكل تلك المعركة فرصة لاستعادة المواطنين دورهم في تقرير كل ما يتعلق بأوضاعهم المعيشية في الإطار المحلي، وتجسيد حقوقهم المشروعة في المرافق والخدمات العامة الأساسية، من مياه وكهرباء وصحة وسكن وتعليم ونقل وغيرها، إضافة إلى توفير محفزات التنمية الاقتصادية المحلية وتعزيز الإدارة المثلى للموارد الطبيعية ولاستخدامات الأراضي والمشاعات البلدية والعمران.

 عن «السفير»

العدد 1105 - 01/5/2024