«احكيلي عـن وطـني»!..

في زمنٍ ما ليس ببعيد، كان مجموعة من الناس يقطنون في مكان جميل، يبعد عنه الشر، ويقترب منه كل خير وحبٍّ وفير، اعتادَ أهله أن يعملوا بجدٍّ منذ بداية يومهم ليصلوا إلى مساءٍ مليء بالمسامرات وليالٍ من فرحٍ وأصواتٍ غنّاء.. وفي ليلةٍ من ليالي آذار، مرِّ كائنٌ غريب، يحمل بصفاتهِ غدرَ العقرب، لون الخفّاش، صوت الغراب، شؤم حكايات البوم، نشرَ خبثه داخل النفوس، تقاتل أهل المكان فيما بينهم، انتشر الثأر، خُلِقَ الكره، وسال الدم، واشتعلت النار.. ترك بعضهم بيته، وتشرّد بعضهم، وآخر قد مات.. هذا المكان كان وطناً.

اختلفت الآراء حول البقاء في الوطن، أيبقى الناس تحت القتل والدمار، أم عليهم أن يفرّوا هاربين بأولادهم خارج الموت المؤكد؟ هل عليهم أن يحاولوا العمل وخلق فرص العمل في مدينتهم، أم يحاولون البحث في بلدٍ آخر؟! وكذلك فكروا في استكمال العلم والعمر. انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الشتائم والتخوين للمواطنين الذين خرجوا من وطنهم، وبالمقابل كلمات حنين كبيرة وعميقة ممن سافر.

يقول محمود: أنا طالب اقتصاد سنة ثالثة، وتخرجي بات قريباً، لكنني لا أنوي السفر خارج سورية نهائياً حتى وإن اقترب موعد ذهابي للخدمة العسكرية الإلزامية والاستشهاد في سبيل الوطن، وفي الوقت نفسه، أنا لن أسامح أي شابٍّ سوري هاجر فقط ليحيا سعيداً وآمناً في الخارج، وأحدٌ ما يموت هنا لأجله ولأجل أرضه ومستقبل أولاده. لن تدمع عيني لكلمات مهاجرٍ اشتاق وطنه، فالوطن لم يهرب، ها هو ذا ينتظر!! أما حسن (طالب هندسة) فينظر إلى الموضوع من جهة أخرى فيقول: أتفهّم رأي صديقي، ولكني أرى الموضوع من منظور آخر. فالحرب الحالية هي حربٌ عالمية مكانها أرضٌ سورية، فهي لم تعد حرباً عادية، وأنا لستُ أهلاً لأن أحمل بندقية، فهناك من سلاحه بيده وروحه حاضرة، وهناك أشخاص – ومنهم أنا – سلاحي في فكري ولا أستطيع أن أقاتل وأرى دماء وأقتل آخرين وإن كانوا أعدائي، وبفكري يكمن سلاحي كما ذكرت، محاولاً أن أكمل دراستي وأعمّق خبرتي وأتعلم أكثر وألحق بالتطور الخارجي، فيأتي وقتي لأعود مع ما اكتسبت لأبني بلدي بأعمالٍ تطوعيةٍ من جهة، وبأفكارٍ جديدة، وبعملٍ يساعد أبناء بلدي للعمل وإيجاد الفرص.

ومن غربتها تقول لي ريم: لا أجدُ فرحاً خارج وطني، فسورية لا تغيب عن بالي، لا أفرح بمكان هنا ولا أهنأ بعيش.. لكن ولدي هما نقطة ضعفي، فما زالا صغيرين، بحاجة لأن يعيشا في ظروف إنسانيةٍ أفضل من صور الحرب والقتل والدمار في بلدي.. أعلم أن أطفالاً كثيرين يعيشون الموت يومياً، لكن عند أولادي لا أستطيع المقارنة، فليس هناك أغلى من الولد، وأما عن البلد، فلا أنا ولا زوجي مع طفلين اثنين قادرين على مجابهة عدو، أو دحر ظلم.. شوقي كبير لسورية وألمي عميق لبعادي عنها وعن أزقتها وشمسها وربيعها.. حنيني يقتلني لأهلي وأصدقائي هناك.. لكنه الولد..

يقول فريد: إن أردت أن أعرّف لك الوطن فأقول ما يلي: (هو المكان الذي أعيش أنا وعائلتي على أرضه وبين شعبه فيؤمّن لي الحياة الكريمة والصحة مع وفرة مال وحقوق إنسانية)! فإن عادت سورية كذلك فسأعود وأسميها وطني، وإن كانت أمريكا أو ألمانيا أو فرنسا أو…. هي من يوافق تعريفي أن تكون لي وطن، فستكون. سأعيش حياتي مرةً واحدة، ولن أصلح العالم وحدي، لذا أريد أن أحيا وأعيش، وأما عن المصالح السياسية فلن أكون قادراً على التصدي لها. أحبُّ سورية كثيراً، لكن سورية باقية وإن مرت عليها عصور وعصور، لكن حياتي واحدة وسأزول مع زوال سني حياتي.

اختلافات كثيرة، آراء غريبة، مشاعر متناقضة… وأكثر حين نسمع أراء الناس وتفكيرهم، ومن كل زاوية نرى أن المتحدث يفكر بالصواب، ومن زاوية مقابلة له تجده يتحدث بأنانية أو عدم إحساس بالمسؤولية. كلهم سوريون، كلهم أكلوا من أرض الوطن وشربوا من مائه، تنفسوا ياسمينه، شمخوا بجباله.. لكنهم مختلفون. ليس علينا تجريم أحد، فالرؤية الكاملة ليست ملك أيٍّ منا، هي فقط عند الخالق. في هذه المرحلة علينا بتقبل مسارات حياة كل منا، فلكل قدرته على العطاء وليس بإمكان من يملك في قلبه رُبعاً من الحبّ أن يعطيِ نصفاً، حسب ما لديه سيعطي.

سورية باقية وستبقى، سورية لنا في كل مكان وزمان، سورية لكل سوريّ مهما كان موقفه ورأيه ومكانه… فلتحيَ سورية حرةً أبية!

العدد 1107 - 22/5/2024