ثورة للناس وثورة ضد الناس ..!!

تستخدم المعارضة الخارجية وبعض الداخلية والمجموعات الإرهابية المسلحة وبعض المأجورين من النخب المثقفة والناشطين السياسيين تسمية الثورة على الأحداث التي وقعت في سورية منذ آذار ،2011 كما يطلق هؤلاء على الإرهابيين وقطاع الطرق والمرتزقة السفاحين مرتكبي المجازر صفة الثوار، تماماً كما أطلق على قطيع بن لادن في أفغانستان سابقاً الصفة ذاتها قبل أحداث 11 أيلول، فهل ما حدث في سورية كان ثورة حقاً ، وما هي الثورة؟ ومتى تكون للناس ومتى تكون ضدهم؟

إن عنوان ثورة للناس وثورة ضد الناس يبسّط مصطلح الثورة والثورة المضادة ويكثف البعد الإنساني فيه ويحدده، فإما أن تكون الثورة لتقدم الناس وتطورهم وتحررهم الفعلي، أو يستخدم فيها الناس مندفعين بشعارات منافقة لغايات تصبّ في مصلحة المتلاعبين بعواطفهم ووعيهم.

ثورة للناس تعني ذلك التغيير في البنى الاجتماعية القائم على العلم لصالح التقدم والعدالة الاجتماعيين، وثورة ضد الناس تعني التغيير المفروض بالقوة والفوضى والتلاعب لصالح تكريس التبعية والهيمنة عن طريق الناس، وهو فارق صدامي تنبع ضرورة الكشف عنه من الحاجة الملحة إلى مواجهة سيل التضليل الهائل في ثقافة ما بعد الحداثة التي محت تلك الفوارق وقلبت المفاهيم وشوهت الفكر وحولت الجماهير إلى وسيلة لإنتاج الوهم والتدمير الذاتي.

بغض النظر عن الواقع التاريخي التجريبي، فإن القيم الإنسانية في نظرية الثورة الماركسية اللينينية لم تزل تتصدر منجزات الفكر والفلسفة، إذ إن أية نظرية أخرى حتى الآن لم تحلّ محلها من حيث الأهمية الاستثنائية لتلك القيم وقوانين التطور الاجتماعي القائمة عليها، فهي قوانين علمية تنظم وتتحكم بحركة الصراع بين التشكيلات الاجتماعية من أجل إنتاج نظام جديد يخرج من أحشاء القديم ويقضي على علاقاته البائدة وتناقضاته وينتقل بالمجتمع إلى أعلى مراحل تطوره، ومن هنا جاءت تسمية ماركس للثورة بقاطرة التاريخ، فهي الواسطة التي ينتقل بها الناس انتقالاً مقونناً من الأشكال الشائخة والمتصدعة، إلى الأشكال الجديدة (الأعلى والأكمل)، ومن الاغتراب والعبودية إلى الحرية، ومن العجز إلى الحركة، والانتقال المقونن يعني أن للثورة شروطها، فلا يمكن إنجازها ونجاحها دون هذه الشروط. فالثورة:

 أولاً، بمعنى التبدل النوعي، يستحيل إنجازها دون توقف التبدلات الكمية التدريجية أو عجز التطور الارتقائي عن إحداث نوع جديد، والفوضويون وحدهم حسب المادية الديالكتيكية يفترضون أن الانقلابات الاجتماعية تحدث بشكل مفاجئ دون تحضير ولا تجميع متواصل للقوى ولا ارتقاء تدريجي بطيء يخلق المقدمات الضرورية للثورة.

وثانياً، العامل الذاتي والعامل الموضوعي، وظرفا المكان والزمان، والإمكانيات وحساب نسب القوى المشاركة، كلها مسائل أساسية تلعب أدوارها المختلفة في العملية الثورية وعليها يتوقف نجاحها أو فشلها.

وثالثاً، قيام الثورة ونجاحها مرتبط حكماً بوجود فكر ثوري وقوى ثورية ووعي جماهيري علماني طبقي وثوري.

ورابعاً، إذا كانت لكل ثورة ظروفها وخصوصيتها فإن أهم قاعدتين تحتفظان بأولويتهما لأية ثورة تحررية ممكنة في بلادنا هما قاعدتا تلازم مساري الصراع الطبقي والوطني معاً من جهة، والنضال ضد ما دعاه لينين (مخلفات القرون الوسطى – في تقريره إلى المنظمات الشيوعية لشعوب الشرق 1919) أي ضد الثقافة والقوى الرجعية بصفتها قوى تابعة مشبعة بالقيم اللاهوتية المعادية للحداثة والمعيقة لتطور شعوبنا، فقضية النضال ضد الاستعمار لا تنفصل عن النضال من أجل العدالة الاجتماعية، والقضيتان لا تنفصلان عن النضال من أجل تحديث المجتمع وتحريره من سلطة غيبيات التراث الماضوي وخساسة الاستبداد الاجتماعي القديم.

وخامساً، لا يمكن وصف حدث تغييري بالثورة ما لم يتضمن محتوى تقدمياً، فالأشكال الجديدة التي تفرزها الثورة إما أن تكون (أعلى وأكمل) كي تنطبق عليها صفة الثورة، أو تكون (أدنى وأنقص) بمعنى أكثر تخلفاً مما هو قائم بالأساس، فلا ينطبق عليها الوصف.

 من دون هذه الشروط الأساسية يستحيل إنجاز ثورة للناس تطلق قواهم الخلاقة، الجبارة، والثورة الشيوعية غير ممكنة إلا بصفتها فعل شعوب وكينونة تاريخية شاملة تنجزها طبقة ثورية تقلب النشاط الإجمالي للحياة السابقة وتسحق كل القيود التي تكبل ملكية الجماهير وحقوقها، ولأنها كذلك، لأن جوهرها الإنسان وحريته وكرامته وتطوره وحقوقه، فهي الخطر الوجودي التاريخي الأعظم والدائم الذي يقضّ مضجع الرأسمالية ويهددها بالفناء، ويرفع في الوقت ذاته منسوب المكر والدهاء لديها، لإبداع وسائل دفاعها وتجديدها واستمرارها وتكريس هيمنتها، بالتأثير المكثف على النواة الثقافية للمجتمعات والتلاعب بوعيها، ومن أحدث تلك الألاعيب: الثورة المضادة: ثورة يستخدم فيها الناس لتحقيق مصالح النظام الرأسمالي وأهدافه، وهم يظنون أنفسهم ثوار حرية وكرامة.

في كتاب (تصدير الثورة) (وهو لمجموعة مؤلفين روس – ترجمة عياد عيد – وزارة الثقافة 2015) أطلق على الثورات الملونة أو المخملية صفة الثورة المسرحية، وهي تسمية دقيقة موفقة لما في هذا النوع المفبرك من الثورات المضادة من سوقية، منذ الظهور المسرحي للجماعات الهيبية في الستينيات، وهي أول صفعة رأسمالية توجه لعلمانية تراث الأنوار، وأول محاولة لبعث القيم اللاهوتية وتعميمها عالمياً وأول بروفة تفريغ احتقانات الشباب في مجرى عبثي فقاعي ليس له أي تأثير فعلي على سيطرة الطبقة الرأسمالية ووجودها.

طوال عقد السبعينيات استمرت عملية تفريغ المجتمعات من السياسة وتعبئتها نفسياً بالغرائز البدائية، إلى أن انتظمت العملية عام 1983 ضمن أضخم المؤسسات الحكومية ونصف الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية، فوضعت برامج تكنولوجيا الثورات المضادة كوسائل للإطاحة بالحكومات والدول التي تشكل خطراً مفترضاً على النظام الرأسمالي، ثم الدول المحافظة على استقلالية قرارها وعلى مصالحها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، والدول غير المنضوية في منظومة التبعية لواشنطن وغير القابلة للأمركة والاندماج في النظام العالمي الجديد، وذلك باستخدام جماهير تلك الدول ذاتها.

ومن أهم المؤسسات المتخصصة في هذا المجال معهد ألبيرت أينشتاين الذي تأسس بهدف استخدام ما سمي بالصراع اللاعنفي، يرأسه ضابط المخابرات العقيد روبيرت هيلفي، والبروفيسور في جامعة هارفارد جين شارب الذي وضع المناهج والتعاليم المكرسة للتأثير على الجماهير وطرق تحريكها في الميادين، والوسائل الأكثر فعالية في تقويض دعائم الدول، وترجمت مؤلفاته إلى 27 لغة في العالم، ومنها مؤلفه (من الديكتاتورية إلى الديمقراطية) الذي ظهر عام ،1993 وهو المرجع الذي يدرّس لنشطاء الثورات المضادة. ويحصل المركز على تمويله من صناديق الملياردير جورج سورس وكذلك من الحكومة الأمريكية.

أما المركز الآخر فهو المركز الدولي للنزاعات اللاعنفية، الذي يقوده الدكتور بيتر أكيرمان عضو مجلس المراقبين في كلية الحقوق والدبلوماسية في جامعة تافتا، والعسكري السابق جاك ديوفال، ويؤهل المركز الكوادر من أجل التجسس، وتتمحور مهمته حول إعداد المرشدين وإكسابهم الخبرات العملية في استخدام أساليب التحكم بوعي الجماهير وإدارة النزاعات في العالم (راجع ص 81 -82 -83 من كتاب تصدير الثورة) وحسب المصدر نفسه فإن الثورة المخملية لا تعد ثورة إنما شكل من أشكال تغيير النخب، وتكنولوجيا سياسية خاصة لنقل السلطة إلى يد دمية ديمقراطية مسايرة للموضة، بالدعم الخارجي، وهي تحمل طبيعة ما بعد حداثوية تنتمي إلى العالم الإمبراطوري الجديد وليس إلى عالم الدول ذات السيادة، ويتحرك الجمهور فيها من خلال تعليمات وأوامر وطقوس قوى لاعقلانية ولا متحضرة، وهو الإطار المميز لما سمّي بالربيع العربي الذي تعاني سورية اليوم أسوأ فصوله الدامية.

إن كل ما يتعلق بما سمي: الثورة في سورية 2011 يعتريه الشك والريبة منذ اللحظات الأولى، ليس فقط لأنه يأتي كحلقة من مسلسل الثورات المصنعة في مراكز واشنطن تلك، وليس فقط لأنه غير متطابق مع أي شرط من الشروط العلمية للثورة، بل أيضاً لاعتبارات كثيرة كانت تكشف عنها مجريات تركيب الحدث على المسرح السوري قبل تاريخ بدء العرض وأثناءه، فلا الدولة كانت في حالة من التفكك والوهن، ولا الشعب كان متحفزاً للثورة رغم حالة الاستياء العام من طريقة إدارة البلاد، ومن الفساد والفوارق الطبقية الآخذة بالتصاعد، ولم تكن في سورية قوى سياسية معارضة فعالة، قادرة على تحريك الشارع باستثناء التأثير العاطفي الديني لجماعة الإخوان المسلمين المعبأة تاريخياً بالحقد وروح النقمة والثأر،

ورغم تأثيرها واستحواذها على نسبة كبيرة من الشارع مع ذلك فشلت عدة محاولات بدأت في 14 كانون الثاني 2011 لفرض العصيان المدني، وكرّر عصام العطار، المرشد العام للجماعة، الدعوة ثانية في 15 شباط ولم يتم التجاوب حتى عندما بدأت بالظهور على موقع فيسبوك صفحات مجهولة تضم نحو ألفين من الأفراد والمجموعات تدعو السوريين للتظاهر، وتم تبليغ نحو 20 ألف مواطن تجاهلوا الدعوة، مما اضطر مخرج المسرحية إلى افتعال حدث أمني تطبيقاً لتعليمات (شارب) التي تنص على ضرورة بذل جهود خاصة لتحريض الجيش والشرطة على أعمال عنف لمواجهة (الثوار)، فكان حدث أطفال درعا الذي انطلقت على أثره المظاهرات من الجامع العمري في 18آذار2011 مترافقة مع ضخ إعلامي تحريضي احترافي غير مسبوق، سُخّرت له عشرات الفضائيات مشكّلة جوقة دولية تهلل على إيقاع الخطاب المذهبي،

كما أن المال الخليجي كان يصل إلى كل متظاهر في البداية، ثم ثمناً للسلاح المتدفق من المخازن الليبية، ورواتب مرتفعة للمسلحين الإرهابيين المحليين والمرتزقة مرتكبي المجازر الطائفية والمذهبية المروعة. وكان كل يوم يمضي يكشف أكثر فأكثر عناصر الفبركة وشيفرة ارتباطات غالبية أطراف (الثورة) بالمخابرات الخارجية، وبضمنها الصهيونية، حتى أصبح النموذج السوري (استغلال العامل البشري السوري في تمزيق النسيج الاجتماعي السوري وتدمير البنية السورية) أسوأ نموذج عرفه العالم من الثورات المضادة، فثورة بمفاهيم فوضوية وغير علمية وخطاب وشعارات طائفية ومذهبية تجرّ الناس إلى المذبحة، تستخدم السلاح الكيماوي من أجل اتهام النظام، تستمد قوتها من أكثر الأنظمة السياسية تخلّفاً في العالم، تودي بحياة ما يقارب نصف مليون سوري، وتشرّد ما يزيد على 12 مليوناً عدا الأسرى والمفقودين والجرحى، وتدمر ما يزيد على 60% من البنية التحتية وخسائر فاقت التريليون ليرة، وتجعل أكثر من 80% من الشعب السوري فقيراً، وكل ذلك من أجل تغيير نحو الأدنى والأنقص، تغيير يقضي على كل إمكانية لبلوغ الأشكال الأعلى والأكمل- هي ثورة يفترض ألا يختلف اثنان على أنها ليست فقط ضد الشعب، بل مجرمة بحقّه.

العدد 1105 - 01/5/2024