فيتنام وتركة «الحرب المستمرة»

في 29 آذار 1973 انسحبت آخر قوات أمريكية مقاتلة رسمياً من جنوب فيتنام، ولكن هل عبارة (انسحبت) مناسبة؟ لا شك أن (أُجليت) أكثر دقة، ومع ذلك استمرت الحرب لعامين آخرين، ولكن بات واضحاً أن القوة الإمبريالية الأغنى في العالم منيت بهزيمة مخزية على أيدي أحد أفقر شعوب العالم.

غزت فرنسا بلدان الهند الصينية كلها بغية ضم أرض المنطقة- ورزّها ومطّاطها- إلى إمبراطوريتها الاستعمارية، وبعد ذلك أخرج الإمبرياليون اليابانيون الفرنسيين. وفي غابات الفيتنام بدأ هوشي مين حرب أنصار ضد الغزاة الأجانب، وواصلها عندما حاول الفرنسيون إعادة غزو المنطقة بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.

هزيمة فرنسا الساحقة في ديان بيان فو في عام 1954 كان ينبغي أن تكون درساً مفيداً للولايات المتحدة، ولكن قادة الرأسمالية الأمريكية فضلوا الاعتقاد أنها لا تنطبق عليهم. كيف يكون ذلك وهم يملكون تلك القوة الصناعية والعسكرية الضخمة؟ كان على الولايات المتحدة التعلم (من كيسها)، ولكن الحرب التي نجمت عن ذلك استمرت عشرين عاماً وكلفت حيوات أكثر من مليون فيتنامي و(58 ألف جندي أمريكي)، شنت الولايات المتحدة حرب رجل غني ضد المستعمرة الفرنسية السابقة التي تصدت بحرب شعب فقير على نمط حرب الأنصار.

أعطت الحرب العالمية التقنية التي شنتها الولايات المتحدة أرباحاً ضخمة للمجمّع العسكري الصناعي فيها. لقد أسقطت الولايات المتحدة على فيتنام الصغيرة وزناً أكبر من القنابل مما أسقطت طوال الحرب العالمية الثانية، وذلك في حملة واحدة فقط، هي عملية لاينبيكر في عام 1972 على سبيل المثال، أسقطت القوات الجوية والبحرية الأمريكية أكثر من 150 ألف طن من القنابل فوق شمال الفيتنام (وفقاً للدعاية الأمريكية حينذاك والآن)، استهدفت حملات القصف هذه حصرياً (المهابط ومصانع الطاقة وبنية تحتية أخرى أساسية لقطع تدفق الإمدادات المرسلة إلى القوات المعادية في الجنوب)، ولكن القاذفات الاستراتيجية الأمريكية التي حلقت على ارتفاعات شاهقة لم تستطع في الحقيقة رؤية أي شيء على الأرض، حلقت وفق إحداثيات رادار معدة مسبقاً وأسقطت حملها الضخم من القنابل بلا تمييز)، وكانت الكلفة مخيفة بالنسبة للشعب الفيتنامي من حيث الموت والدمار.

كان على الكثير من المجتمع الفيتنامي الانتقال إلى تحت سطح الأرض لتجنب القنابل الأمريكية، في حملة دفاعية فاقت كثيراً مقاومة الحرب الخاطفة الألمانية على لندن، ولكن الإعلام الرأسمالي أغفلها إلى حد كبير، وأصبح الفيتناميون أسياد أنظمة الأنفاق المعقدة، سامحين للقوات الأمريكية بكشف أنفاق أرادوها أن تكشفها وليس تلك الأعمق المخبأة المستخدمة من قبل مقاتلي جبهة التحرير الوطني.

يصعب اليوم إدراك حجم الحرب الأمريكية ضد فيتنام، ولكن لنتأمل مايلي:

يوجد 7,2ملايين (محارب قديم) أمريكي على قيد الحياة. كان هؤلاء في معظمهم إما متطوعين مبتلين بالفقر أو مجندين فقراء أيضاً وجدوا أنفسهم يؤمرون بتنفيذ أعمال فظيعة بأوهى الأعذار المسوغة بدعاية عنصرية واضحة. قال شعار مناهض للحرب في ذلك الوقت: (ما من فيتنامي وصفني يوماً ما بالزنجي).

أمر الضباط الأمريكيون الجنود بارتكاب أشياء فظيعة لدرجة أن عدداً كبيراً من الجنود باتوا مرضى نفسياً بشكل جدي نتيجة ذلك، ونجم عن ذلك في فيتنام هجمات عديدة على الضباط من قبل المراتب الأدنى، وكان التشظي (دحرجة قنبلة يدوية متشظية إلى خيمة ضابط) هو العمل المفضل، وعندما عادوا من الخدمة في فيتنام، كانوا في الكثير من الأحيان مضطرين بسبب ما شاهدوه وفعلوه لدرجة أنهم لم يندمجوا في الحياة المدنية، وبحث الكثيرون عن الملجأ في الغابات وأماكن أخرى معزولة. وانضمت أعداد كبيرة منهم فعلاً إلى الحركة المناهضة للحرب.

كانت حرب فيتنام ذروة الجهد العسكري الأمريكي لـ(صدّ الشيوعية)، بدأ ذلك المسعى خلال الحرب العالمية الثانية عندما خان الأمريكيون الغزاة الأنصار الشيوعيين في صقلية (وخان البريطانيون الماكي – الفرنسيين- مقاتلي حركة المقاومة ضد المحتلين الألمان- في الوقت نفسه، ما يشير بوضوح إلى أنه كان عملاً منسقاً)، وأعقب ذلك تدخل لمصلحة قوى استعمارية في شتى حروب التحرر الوطني، وفي كل مكان من الفيلبين إلى الجزائر إلى الملايو وبالطبع فيتنام.

حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ودول إمبريالية أخرى بعد ذلك إثارة حرب على شبه الجزيرة الكورية ومن ثم تحويلها إلى حرب نووية مع الصين، ضبط الاتحاد السوفييتي، لحسن الحظ، أعصابه، واضطرت الولايات المتحدة إلى التنازل وسرحت بشكل مخز بطلها الجنرال دوغلاس ماك آرثر الذي قادها إلى هذا الوضع المؤسف.

كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تجميد الوضع في كوريا، ومع ذلك عندما هُزم الفرنسيون في ديان بيان فو، اسرعت الإمبريالية الأمريكية لتحل محلها، فحتى الحروب الخاسرة مربحة جداً في نهاية المطاف إذا جرت على أرض أجنبية. خاضت القوى الإمبريالية الرئيسية – الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منذ نهاية حرب فيتنام حروباً عديدة، ولكن دائماً على أرض الآخرين، في العراق وسورية وليبيا واليمن وإفريقيا الوسطى وأمريكا الوسطى كلها والكثير من أمريكا الجنوبية.

وأخيراً تحاول الولايات المتحدة مع زميلتها الحميمة اليابان إثارة حرب مع الصين حول جزر يصعب تصنيفها في بحر الصين الجنوبي، حكومة شنزو آبي اليابانية اليمينية مصممة على إحياء (أيام مجد) الماضي الإمبراطوري لليابان، وترى في محاولة التنمر على جارتها الأكبر طريقة لكسب ود الولايات المتحدة، والأخيرة بالطبع هي الدولة الإمبريالية الأقوى في العالم، ولكن انقضت منذ وقت طويل الأيام التي كان يمكن فيها بناء الإمبراطوريات بفوهة البندقية.

سبق أن غزت اليابان الصين (وكذلك فعلت بريطانيا والولايات المتحدة)، ولكن الصين لم تعد بقية إمبراطورية بلا حماية تحت رحمة أية قوة استعمارية ترغب الاستيلاء على جزء من أرضها، كل من يحاول التنمر على الصين اليوم سيدمي أنفه، على الأرجح.

العدد 1105 - 01/5/2024