ستبقى للكلمة القيمة الأهم في فضّ النزاعات

 للكلمة مساراتها وآليات عبور لتظهر كما ترنّ بمسامعنا، فالكلمة تبث مشاعر وصوراً معينة في العقل، وكل منا يمكنه اختبار ذلك من خلال لعبة ارتباط الكلمات، إذ في هذه اللعبة سوف يجد كل من يجربها، كيف سيكوّن عقلنا صورة ما في اللاشعور لدينا، وهذا الأمر يحدث بصورة تلقائية لا إرادية.

للمحلل النفسي الفرنسي الشهير (جاك لاكان) قول شهير حول بناء اللغة بأن: (اللاشعور مبني كبناء اللغة ) وفقاً لدراسة عمليات الإدراك، أي وفقاً لاستعمال الأدوات المناسبة لكل موقف، وفهم الدلالات الخاصة بعلم النفس اللغوي المتعلقة بقول الأشياء بطريقة معينة.

أما الباحث (شينسينج زين) من جامعة بوردو في ولاية أنديانا الأمريكية فيجد: من الصعب إحياء ذكرى الألم البدني مقارنة بالألم العاطفي والاجتماعي. في دراسة منشورة على موقع (BBC) تؤكد:

إن التغيرات التي تطرأ على المخ وتسمح لنا بالعمل في إطار جماعي أو مجتمعي يمكن أن تكون المفتاح لفهم هذا الأمر. وطُلب في هذه الدراسة من عينة البحث، وهم متطوعون جميعهم من الطلاب، أن يكتبوا عن تجاربهم المؤلمة البدنية والعاطفية ثم يجرى لهم اختبار ذهني صعب بعد كتابة تلك التجارب بوقت قصير.

والمبدأ الأساسي الذي اعتمدت عليه الدراسة، أنه كلما كانت التّجربة التي تذكرها الطالب أكثر إيلاماً كلما كان أداؤه في الاختبار أسوأ. وكانت النتائج أفضل لدى تذكر تجارب الألم البدني عن الألم العاطفي. وقال الباحثون في هذه الدراسة: إن هناك جانباً في المخ قد يكون مسؤولاً عن التجارب والكلمات المؤلمة التي يتعرض لها الإنسان هو: القشرة المخية التي تقوم بعمليات معقدة تشمل التفكير والإدراك واللغة.

إن هذا الجزء من المخ يُحسّن قدرة الإنسان على التّكيف مع الجماعات والثقافات، كما أنه مسؤول عن رد الفعل على الألم الذي له علاقة بالجماعات. فكم تُبنى من فرضيات على ما يقوله الأشخاص، وقد يكون التّفسير الخاطئ لكلماتنا متسبباً في الكثير من الحروب وفساد العلاقات وإفلاس المشروعات، كما أن الناس يقضون جلّ وقتهم وهم يقنعون الآخرين بمقدمات سيئة بأن الوضع أسوأ مما هو عليه، فهم يصعّبون الأمر على الآخرين بتكوين مشاعر سيئة لدى الآخرين.. والكلمة عندما تقال في مكانها، فإن أثرها على النفس لا حدود له، من حيث حل الخصومات والاستبصار بحلول لإعادة الوفاق والمودة.

وفي المقابل قد تؤجج بعض الكلمات الصراع، إن قيلت من أشخاص لهم وقع في القلوب ومكانة في النفوس. يقول تعالى في كتابه العزيز: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (إبراهيم: 24-26).

إن توظيف الكلمات المحبة والمنطقية مع أطفالنا هي المحدد لمستقبلهم العاطفي، كما أن لكلماتنا المحفّزة على التّفكير الدّور في تهيئة الظّروف للإبداع.

يقول مايكل هوجسمان (المختص النّفسي الألماني في علم نفس الطّفل): من المرجح أن تكون عدّة أجزاء في المخ تتعامل مع الألم العاطفي الذي يُعتبر تأثيره أبعد مدى. أي أنه في الألم البدني يمكن رؤية الجراح والكدمات، أما في الألم العاطفي فهو يخلف في الغالب القلق والخوف، وبالتّالي فالذّكريات المؤلمة المرتبطة بالتّجارب العاطفية أكثر إيلاماً من تلك المتعلقة بالألم البدني..

فما أحوجنا، نحن السوريين، إلى الكلمات التي تبني الجسور بين العقول والنفوس.. وما أحوجنا إلى التّملي في الفكرة قبل أن ننطق بها وتصبح كلماتنا عبئاً علينا.. للكلمات عبء على العقول والقلوب، من خلال الجمل الاتهامية التي لا تبني أي أثر إيجابي، ولا تشجّع أي حل أو أفق مستقبلي..

هناك طرق جيدة لصياغة العبارات الصّحيحة المضامين ضمن الكلمات المعينة التي قد تكون في موقف معين غير مناسبة، وتستخدم بحيث تكون أقرب إلى النتيجة التي ستحصل عليها بعد ذلك، تعتبر الطّريقة التي نصوغ بها سؤالاً لنعرف به معلومات عن الآخرين شيئاً محورياً جداً ومهماً للغاية، فمهارة طرح الأسئلة مهارة مهمة ونحتاج إليها للتّواصل مع الآخرين بنجاح، وهناك أسئلة ذات إجابات مفتوحة وأسئلة أخرى ذات إجابات مغلقة.

والسؤال ذو الإجابة المفتوحة سيستعمل الكلمات بطريقة تجعل الشّخص الذي يُطرح عليه السّؤال، يجيب بكثير من التّوضيح والتّفصيل، فمثلاً إذا قيل لك: هل تحب أفلام الرّعب؟ هذا السّؤال له إجابة محددة، أما السّؤال ذو الإجابة المفتوحة: فقد يؤدي إلى اختيار إجابة أكثر تفصيلاً وطولاً، والأسئلة ذات الإجابات المفتوحة مفيدة للدّخول إلى داخل العقل، لأنها تشجع على اكتشاف النّفس البشرية، وتستطيع أن تستعملها لتعرف الدّوافع أو الرّغبات الحقيقية أو الخفيّة للفرد.

والأسئلة القديمة الجديدة التي تبدأ ب: ماذا، متى، كيف، أين، ومن؟ تعتبر أيضاً من أدوات حل المشكلات، كما تشجع الناس على إظهار مشاعرهم العميقة.

وقد يكون هناك تردد عام في استعمال هذه الأدوات القديمة الجديدة خوفاً من أن يبدو الفرد تواقاً بشكل كبير للتّعرف على الآخرين، لكن السّؤال الجيد يساعد في التّعرف على المشكلة.

كما أن النقد والنّصيحة يعيقان الناس عن تحليل الأسباب التي أدت إلى سلوكهم.

أخيراً، لي دعوة لكل من تصله مادتي هذه باختبار ما للكلمة من قوة وسحر بأي قالب صيغت، وبأي أسلوب طُرحت، فحتى نحسن الفعل لابد أن نحسن القول والفكرة المتضمنة له، لأن في ذلك خير لنا ولغيرنا، للعيش بسلام.

العدد 1105 - 01/5/2024