إنهـم يحبطوننا

 نحن اليوم أمام نظام تعليمي يفتقر بمعظمه لمفهومي (النظام) و(التعليم)

من البداهة معرفة أن الشروط المفروضة على المتقدمين إلى مختلف الجامعات والمعاهد تهدف إلى تحديد كمية الطلاب، ونوعيتهم، إذ تشكل هذه الشروط غربالاً ينفذ من ثقوبه مَن يمتلكها. أو من يستطيع امتلاكها بسحر من (واسطة) تجعله رشيقاً وناعماً لينفذ من الغربال بسهولة!

لست بصدد توجيه هجوم أو لوم أو عتاب للحكومة المصون ككل، لأنني أنظر إلى (العبث) الذي يعبق بأجواء بعض الشخصيات المسؤولة في المؤسسات التعليمية وسلوكها، على أنه نتاج (مزاجيات) متقلبة وغير مستقرة توازي بتقلباتها وعدم استقرارها الطقس الجماعي العام الذي حفرت فيه الحرب وتداعياتها أخاديد كثيرة من (العبث) لن تندمل حتى بعد (انتهاء) هذه الحرب.

يرافق تيار الشاب-الطالب، بما يحمله من قدرات ورؤى وآمال، تيارين اثنين – من مجمل التيارات المحيطة-  ذوي قوة وتأثير بالغ. أولهما: (تيار أهله) الذي نسب لنفسه العلم والمعرفة بكل شيء، لامتلاكه التجربة الحياتية الطويلة التي تمكّنه من إملاء وجهة نظره (الصائبة أبداً)، إضافة إلى موقعهم السلطوي من العلاقة، الذي يخولهم – إذا قوبلت توجيهاتهم بعدم الرضا-  بفرض رأيهم- قرارهم دون أي مناقشة لاحقة!  والثاني هو (تيار أسياد التعليم) الذي يشكله مسؤولو النظام التعليمي وكوادره، الذين، بسبب سلطتهم المفروضة على خيارات الطالب، يؤثرون على رحلة متابعته لدراسته، التي قد تجعل من هذا التأثير تحويلاً كاملا للمجرى، ما قد يجبر الطالب على أخذ منحىً دراسيّ مختلف عما كان ينويه.

ومن الضروري التعرف على طبيعة هذه (الواو) الواصلة بين (هذين التيارين) و(تيار الشاب- الطالب)، ذلك أنه غالبا ما ينظر إلى هذه (الواو) نظرة قاصرة تفضي أخيراً إلى توجيه التوبيخ والعتاب وحتى الفشل نحو هؤلاء الشباب- الطلاب إذا ما ضاقوا ذرعا بالتيارين المرافقين وقرروا الابتعاد إلى مكان أبعد يحوي تيارات تؤثر إيجاباً لا سلباً.

وقبل الدخول في تجربتي مع مؤسستي تعليم أكاديمي، أقول إنه لا يمكنني النظر إلى عملية التعليم المتبعة إلا على أنها آلية تلقين وفرض معلومات من قبل الطرف الأول، ورضوخ واستسلام لها من الطرف الآخر. ونتيجة هذه العلاقة لا تعطيني إلا عقلاً مدجّناً ومؤطراً وبالتالي راكداً. ولا أرى فرقاً بين هذه العملية وعملية التربية المدرسية إلا في نوعية وشكل الغلاف الذي يغطي كلتا العمليتين وشكله. كان الكاتب الكبير(هنريك إبسن) على صواب حينما شبه تلك الأساليب بـ(آلة الفرم التي تطحن أدمغة الجميع في عجينة واحدة، فتصبح كلها نقانق بشرية، وكلها متشابهة!).

أدرس اليوم علم الاجتماع في جامعة دمشق، وحقيقة لا يعجبني شيء في هذا (الفرع) إلا اسمه.

والسبب، كمعظم الطلاب، يرجع إلى أن هذا (الفرع) بعيد كل البعد عما أبتغيه وأسعى إليه. ولأن معظم الناس تحب التحدث(على أرض الواقع)، فإن هذا الفرع، وعلى أرض الواقع، يحيط نفسه بهالة هلامية من اسم وقور، علم الاجتماع، بنظري، هو آلة شريرة لسحق السنين، أي أنها تنزع من عمرك أربع أو ست سنوات تقريباً لترميها في جوف هذه الآلة، بعد أن تنتهي بك الرحلة الدراسية الجميلة موجهاً مدرسياً، أو أحد أعمدة مؤسسات التنمية البشرية التي لم أستلطف يوماً آلهتها ولا (إبراهيم الفقي) رسولها.

ومن ناحية أخرى، عندما فتحت لي (طاقة فرج) أرى من خلالها بدايات الطريق الذي أرغب في سلوكه، وهي تمثلت في قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية، أُغلقت هذه الطاقة في وجهي!، ذلك لأني لست أحد أصدقاء ابن العميد، ولا من معارف الأساتذة هناك، ووالدي أفقر من أن يكون مالك مشفى كبير أو مدير شركة تجارية!.. أو لأنني لم أحقق الشروط المطلوبة. لا أعلم!!

أفهم مما سبق أن هنالك صراعاً دائماً بين (الرغبة) و(الواقع) بتياراته وتعقيداته وإشكالياته، وغالباً ما ترجح كفة الفوز نحو (الواقع)، وينظر إلى الرغبة على أنها ترّهات، تخبّلات، شيء لا ضرورة له، وستظل هذه النظرة دائمة بدوام تفشي سلطة المحيط الظالمة-الضعيفة، ذلك لأن الرغبة والأمنية آمال غير مُشكّلة وتحتاج إلى التكوين الواضح المعالم المستقى من تربة الواقع الذي، وبسبب مكوناته وتراتبيته الجامدة والثابتة، لا يبالي بإعطائها – أي الرغبة-  شكلا معيناً لتحصيلها. والنتيجة مما سبق أن احتمالية فشلي هنا – أي في هذا الواقع الاجتماعي-  لا علاقة لي بها. فمجرد أنني (شاب) هو دلالة على امتلاكي للنشاط والطاقة والعزيمة التي تخولني خوض غمار رحلة التعلّم الطويلة؛ التي لا داعي لها هنا!.. ولذلك أعتقد أننا بحاجة إلى تغيير أسياد الواقع والمحيط بمختلف المستويات والمسؤوليات، لثقتي بأن بعض الأفراد هنا قادرون على النجاح والتميّز خارج القيود والحواجز المفروضة – من اللا شيء سوى الغباء-  من قبل الأيادي والأرجل المحيطة بنا.

العدد 1105 - 01/5/2024