الحوار سرُّنا في حل مشاكلنا

 من منا لا يتأثّر بكلمة أو حديث يسمعه، فإما أن يمتلك الطاقة الإيجابية أو أن ينعكس الكلام بشكلٍ سلبي على يومه؟

للكلمة في نفوسنا وقعٌ كبير، فبمجرد أن نسمع كلمةً جميلةً أو لطيفةً نرى أن يومنا بات أفضل، والعكس صحيح، فما إن نسمع عبارةً مزعجةً حتى نتحول تلقائياً إلى طاقةٍ سلبيةٍ تحوّل كل ما نعيشه إلى أحداثٍ سيئةٍ أو مزعجة.

والطفل هو أكثر الأشخاص إحساساً بالكلمة، باعتبار الكلام إحدى أهم وسائل التواصل معه، وتحديداً في سني حياته الأولى وما قبل المدرسة، ثم خلال حياته المدرسية. فكم من طفلٍ مشاكسٍ عنيدٍ، استطاعت أمه أو مدرِّسته أن تحوّله، بالكلام معه، إلى شخصٍ لطيفٍ هادئٍ مطيع!! يضاف إلى ذلك نبرة الصوت التي تقال بها الكلمات، فالنبرة الهادئة مفعولها أقوى وأعظم من النبرة العالية التي يتلقاها الطفل على أنها شيء من التعنيف، وبالتالي يمكن أن يكون رفضه لما يُطلب منه تعبيراً عن رفضه لنبرة الصوت العالية، وليس رفضاً للطلب بحد ذاته.

هذا ما لمسته من تواصلي المستمر مع الأطفال في المدرسة، فالكلمة اللطيفة الهادئة تشعرهم بالأمان والطمأنينة وتجعلهم أكثر تقبلاً لما يطلب منهم، بل وتجعلهم أكثر انفتاحاً في التعامل مع الآخر الذي هو إما زميل أو مدرّس أو أحد الأبوين أو الإخوة. فمن خلال التواصل اللفظي استطعت أن أدخل إلى عوالمهم الخاصة، وأن أحظى بأن أكون بيت أسرارهم وملجأ بوحهم، وأدركت أنه يجب علينا أن لا نتعامل مع هذا الطفل على أنه متلقٍّ دائماً، بل في كثيرٍ من الأحيان أجد أنني أتعلم منهم الكثير، شريطة احترام كيانهم والقناعة بأنهم يمتلكون الحق في التعبير عن أنفسهم، وهذا يحتاج أيضاً إلى الإيمان بأهمية الحوار وأهمية الكلمة، وأننا في الحوار طرفان متماثلان لكلٍّ منا الحق في إبداء وجهة نظره، وليس أن يكون أحدنا هو المتلقي دوماً والآخر هو المتكلم والموجِّه دوماً.

والحوار مع الطفل أساسه أن نتمكن من التواصل مع هذا الإنسان بلغته هو، وأقصد مصطلحاته وتعابيره، بمعنى أن أحاوره بلغته البسيطة السهلة التي يفهمها، إضافةً إلى أنه يجب الوقوف أمامه بمستوى واحد من الطول، حتى تلتقي العيون في مستوى واحد، فيشعر بأنه مثلي أو أنا مثله، وليس أن أكون أعلى منه فينظر إلي على أنني أكبر منه أو أعلى مستوى.. حتى نصل إلى النتيجة المرجوة والمبتغاة معه.

ومن يتمكن من التواصل مع الأطفال بسهولة، يجد سهولةً أكبر بالتواصل مع الكبار، ذلك لأن للطفل معاييره الخاصة والتي تناسيناها نحن الكبار واعتمدنا معاييرنا المختلفة بشكلٍ كاملٍ عنه.

أذكر مرةً أن أحد تلاميذي في الصف الأول كان دائم التعبير عن حبه لي بلغته البسيطة التي يستخدم فيها الكلمة ذاتها دونما أية إضافات، وحين وجدني فجأة أصرخ على زملائه بقصد دفعهم لأن يصغون إلي، ما كان منه إلا أن جاءني وقال لي: (أنا لا أحبك)!! هكذا وبكل بساطة، هو لم يعبر إلاّ عن شعوره نحوي في تلك اللحظة، إلا أنه ومن دون أن يعي أوضح لي كيف يجب أن أكون، وكيف عليَّ أن أتعامل معهم…

طفلٌ آخر، كانت والدته تأتي على الدوام إلى المدرسة تشكو منه بأنه عنيدٌ وأنه يتعبها وأنه لا يصغي إليها ولا يأبه بها، ولكوني أدركت أنه اعتاد على التمرد، وأنه بذات الوقت يتقبلني ويتقبل مني ما لا يتقبله من الآخرين، اتبعت معه أسلوب الحوار وصرنا نختلق الفرصة المناسبة حتى نتكلم معاً وأختلق له القصص والحوادث، وجعلته يشعر أنه مهمٌ جداً بالنسبة لي وأنني لا أتمكن من ضبط الصف إلا بوجوده ومساندته لي، وحين يتصرف تصرفاً مزعجاً أشعره بمدى امتعاضي واستيائي من تصرفه، وشيئاً فشيئاً توصل الطفل المراهق ليعبر لي بقوله: (تزعل كل العالم بس انت ما تزعلي..) وجاءتني والدته بعد فترةٍ لتسألني عن سر تبدل حال ولدها معها، فأجبتها بأنه الحوار!

رغبت أن أسرد هذين المثالين لأوضح أننا بالحوار الهادئ نستطيع أن نتوصل إلى ما نريد مهما عانينا من صعوبات، لكننا بالنهاية سوف نحقق ما نبتغيه، فقط إن وضعنا نصب أعيننا وفي أذهاننا أن الآخر الذي أمامنا هو كائنٌ كاملٌ له من الحق ما لنا، وعلينا من الواجب ما عليه، وكما نريد أن نتلقى الاحترام والحب والتواصل الجيد من الآخر معنا، علينا أن نعطي الآخر أيضاً ما يريد ويحتاج.

فحين نمتلك أدوات الحوار مع أنفسنا ومع الآخرين نجد حلولاً عديدةً للمشاكل التي تعترضنا، مهما كانت صغيرةً أو كبيرةً، ابتداءً بالمشاكل البسيطة اليومية وانتهاء بأزمةٍ تمر بها البلاد منذ سنوات أكلت الأخضر واليابس.

العدد 1105 - 01/5/2024