جماليات التلقي والوعي الجمالي الجمعي

إذا كان الإبداع يرتبط بثلاثية أثيرة هي الكاتب، والنص، والمتلقي، فإن هذه الثلاثية التي ستبدو في المقاربات النقدية حجر الأساس في البناء المعرفي، الذي لا ينظر إلى النص ابتداءً بوصفه ظاهرة فحسب، بل هو عملية تكاملية مع أطرافها الأخرى، لذلك كان هذا المثلث الذهبي الذي يحيلنا في خلاصته إلى الوقوف عند جماليات التلقي، وهي التي فُتن بها النقد، فبحث واستشرف في خصوصيات ذلك التلقي، على مستويين: المستوى الأول، هو مستوى الجماليات العابرة للنصوص، والمستوى الثاني، هو مستوى التلقي المُنتج للنص الإبداعي، باختلافه وتطيّره من التماثل.

إذاً فالجماليات باتت تُشكل، اليوم وفي الراهن الإبداعي، أكثر من هاجس، وأبلغ من حاجة يستقيم بها النص في مرايا التلقي، لا سيما التلقي الجمعي، دون إغفال ما للتلقي الفردي من مزايا وخصائص بعينها.

وبصرف النظر عن تاريخية تلك الجماليات، فهي جماليات مركبة تقوم على إحراز المعنى من خلال السياق، وتجاوز ما أسماه النقاد يوماً (تخارج الدلالات). والواقع الإبداعي ليس فقيراً بتلك الحوافز التي تجعل من الجماليات أكثر من أفق انتظار، فكيف إذاً نقف عليها تأويلاً يخصب النصوص الإبداعية، ويستولد منها القيمة المنتظرة؟ إنها رؤية في كلية الإبداع، وليس في اختزاله وتجزئته وانفصامه عن ذات المبدع التي تُشكل في النصوص دالة إبداعية تنفصل وتتصل بآن معاً، لكنها وهي تطييف في الأثر الإبداعي كما هو الحال في نصوص السير الذاتية وفي النصوص الروائية التي قيل عنها أنها سير ذاتية مقنعة، وللسير شأن آخر في مكونات جمالية يظل سؤال الكيف فيها هو أحد أهم الأسئلة، بل وأغزرها.

على أن الحديث عن الجمالية لا يكتمل إذا نظرنا إليها بوصفها كلاً خارج بنية النصوص الإبداعية بالمعنى الفني، وبمعنى آخر إنها سعي ذلك الوعي الجمعي لتشكيل موقف ما من الأثر الإبداعي تجاه الذات وتجاه العالم والحياة، وهذا ما يصب في كيفيات استقبال النصوص الإبداعية، ليس وقوفاً وحسب عند خصوصيتها، بل قراءة ذلك التعدد المُثري للتأويل، والحافز لإقامة الأثر في أكثر من زمن، وهذا ما يستدعي وجوب حداثته بهذا السياق.

لكن استقبال الوعي الجمعي لمطلق عمل أدبي، أيضاً، لا يكون سوى بالتقاط التجربة التي انطوت عليها النصوص، ومن خلالها تنشأ المعايشة الحقيقية، ويكون الاقتراب منها هو حواراً معها، وليس عبوراً على سطحها فقط.

إذ إن القراءة هي بناء ومتعة أكثر من كونها تلقّياً، فضلاً عن ذلك إن ما تلامسه اللغة هو بشكل من الأشكال حافز جدل كبير في أدبية النص وهويته ومحايثته للواقع، أو مفارقته له.

وعليه فإن أفعال القراءة ومن خلال هذا المنظور، هي الأقرب إلى أفعال الكتابة، فأن تقرأ فأنت بالضرورة تكتب، وتأتي إلى المعرفة بشغفها المقيم، وذلك الشغف ما سيصير وقوفاً عند ما يعنيه علم النص، وبالمقابل ما يعينه الاستقبال النقدي الفاعل، وفي راهننا الإبداعي ثمة العديد من مفارقات الاستقبال النقدي ونوادره المؤسية، إذ إن النص -في ذلك الاستقبال- يُنظر إليه ككائن لغوي فحسب، وعليه تنهض مقاربات يأسرها الشكل ولا تلفتها العلائق الموحية، وتجوس البنية دون أن تعلل جذورها، وبذلك هي تفصم النص عن كل ما يحيط به من علائق ومكونات اجتماعية وفكرية وإنسانية وهذا ما يُحيل إلى أشكال من الفقر المعرفي، والسياحة المجانية في نصوص ملتبسة بالإبداع، والمثال على ذلك الغواية بكتابة الرواية التي ستبدو شرطاً لازماً لكنه غير كاف، وكذا الأمثلة في الشعر وغير ذلك في أجناس إبداعية مختلفة.

إن انتشار العوالم الافتراضية والتواصل الاجتماعي، وبصرف النظر عن إيجابياته المحتملة، قد أفسح المجال كثيراً بذرائع (دمقرطة الثقافة)، لشيوع أشكال عديدة مما نسميه فقط بالاستقبال، لكن جمالياته هنا لا تنحصر بتعدد مستقبلي النصوص ومرجعياتهم، بل إن ذلك الشيوع قد أفضى إلى ما يمكن أن نسميه بجماهيرية القراءة ومفارقاتها الواسعة، التي ظهرت بديلاً عن الاختصاص، بل إنها كما يقال قد وسعت الهوامش في العلاقة مع الأجناس الإبداعية، فهي من جهة سمحت لكثير منها بالانتشار، وهذا ما استدعى استقبالاً (نقدياً) متفاوتاً اختلطت فيه المعايير وأصبحت الذائقة وحدها هي القيّم على النصوص، على أهمية الذائقة في تداول الإبداع.

وذلك لا يعني التقليل من شأن ذلك الانفتاح في الميديا، بل لا بد من سلطة المعيار وهي نسبية من أن تكون حاكمة ولو بالحد الأدنى على ما يعنيه النص كتابة واستقبالاً!.

العدد 1104 - 24/4/2024