كان العبورُ مُقَدّساً.. ومُقَدّساً يبقى الوطن…

(إنّني أؤمن بحقّي في الحرية، وحقّ بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح، وحينما يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أُنهكت قواه، ولكنَّهُ حين يحارب من أجل وطنه يمضي في طريقه حتى النهاية…)_عمر المختار.

الشّآم.. الشِّرْيان التاجيّ النبيل الذي حمل – وما يزال – الأنوار الروحانية من القلب السماوي إلى الجسد الأرضي؛ فمنها انطلقتْ رسالة السيد المسيح الإنسانية السامية إلى العالم.. ومنها انتشرت الرسالة المحمدية الكريمة.. وما كنيسة القديس بولص، وجامع بني أمية إلا رمزان ساطعان على بهاء المحبة في دمشق، وعلى دورها المجيد عبر العصور.. إلى يومنا هذا.

وتحت ثرى الشآم يغفو كبار الفلاسفة والكتّاب والشعراء.. من الفيلسوف الدمشقي (داماسكيوس)، ومن (المعلم الثاني) أبي نصر الفارابي، والشيخ الأكبر (ابن عربي)… إلى حسين مروة، ونزار قباني، وأبي سلمى، والجواهري، والبياتي…و سورية الشآمية الطبيعية كانت – دائماً وأبداً – مَقْبرة للغزاة والمستعمرين والغرباء.. قديماً وحديثاً، وأديمها من أجساد شهداء خالدين ما برحتْ أرواحهم تضيء حياتنا وحريتنا وكرامتنا…

تأسيساً على ذلك استعصت سورية الوطنية، العروبية، المقاومة.. على أعداء الحياة ومجرمي الحروب ومهندسي إرهاب الدولة، ولا سيما الأمريكي الداعم المطلق لإرهاب الكيان الصهيوني، واستعصت، كذلك، على التنظيمات والقوى الظلامية، التفتيتية، التكفيرية، الخارجة على جميع القيم الإنسانية الأزلية… والتي تخطّتْ جرائمها جرائم النازية والفاشية وتجاوزتها، والتي تعمل على إعادة البلاد والعباد إلى ظُلُمات القرون الوسطى.. وسِفر التاريخ يدوّن في صفحته الأولى: سورية قصيدة السلم عند السلم، وملحمة الحرب وقت الحرب.

***

في مقام ذكرى حرب تشرين التحريرية، مقام فعل البطولة والتضحية والفداء والشرف… وفي الأجواء الشعرية الرحيبة، أذكر، فيما أذكر، قصيدة (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي) لقنديل الشعر العربي الأخضر في القرن العشرين نزار قباني، التي هي من القصائد العربية الأولى التي استجابت على نحو غنائي وجداني بديع خلاق لمعارك التحرير التي انطلقت في السادس من تشرين الأول عام 1973 على هضاب الجولان ومرتفعاته، وضفاف سيناء وأمواج قناة السويس في البر والبحر والجو:

جاء تشرينُ ياحبيبةَ عمري

أحسنُ الوقت للهوى تشرينُ

شمسُ غرناطةٍ أطلّتْ علينا

بعد يأسٍ وزغردَتْ ميسلونُ

آه يا شام كيفَ أشرحُ ما بي

وأنا فيكِ دائماً مسكونُ

وأذكرُ بكثير من الحنين والحبّ والفخر.. المقاتل العربي الشهم المقدام الذي استطاع أنْ يرقى جبل الشيخ ورُبا الجولان، ويعبر القناة ويتحدى القوة الغاشمة، ويزلزل كيان العدوان والاغتصاب والاحتلال والإرهاب الصهيوني على أرضنا العربية، وأن يعيد إلى أمتنا إرادتها الحرّة وثقتها بنفسها وبقدرتها على تحرير الأرض والإنسان.. والذي استطاع، كذلك، إسقاط الاتهامات القاسية التي وصمته بها نكسة حزيران المريرة.. وتجاوز عقدة الذنب والخوف واليأس والأحزان الوجيعة…

وصوّر شعراؤنا، فيما صوروا، بطولة (العبور) عبور القوات السورية والمصرية للحواجز الطبيعية المانعة وتحطيمها لأسطورة جيش الكيان الصهيوني الذي لا يقهر.. وأعطوا فكرة العبور المادي بعداً رمزياً وطاقة تجريدية ومعنى روحياً في قصائدهم على أنه عبور من عصر إلى عصر… قال شاعر المقاومة (توفيق زياد) يحيّي معجزة العبور:

كان العبور مقدساً والشمس في عزّ الظهيرة

والشآم تعود للجولان زاحفة على جسد الردى..

والناس الدمشقيون كالغضب المقدس يزحفون ويزحفون

كان العبور مُقَدّساً، ومقدّساً يبقى الوطن…

وأذكر تلك الصورة الرائعة الحية التي رسمها الشعر للمقاتل العربي؛ فقد أبرزته بطلاً إيجابياً واعياً يجسّد آمال أمته في التحرير، ويبذل أعزّ ما يملك الرجال من أجل هذا الهدف الغالي النبيل.. وحين اشتعلت المعارك وتوهجت نيرانها.. انطلقت أصوات شعراء العروبة لتمجد بالقصائد المحاربة بطولات المقاتلين الميامين، وها هو الشاعر العربي المصري صلاح عبد الصبور، يكتب (رسالة) يوجهها إلى أول جندي عَبَرَ خط (بارليف) الحصين وانطلق داخل الرمال ورفع العَلَم في القسم المحرر من سيناء وانكفأ على الأرض يقبّلها ويبكي:

ترى ارتجفتْ شفاهكَ

عندما أحسستَ طعم الرمل والحصباء

بطعم الدم مبلولا

وماذا استطعمتْ شفتاكَ عند القبلة الأولى..؟

وأذكر الشاعر الوطني، العروبي، الإنساني بامتياز (سليمان العيسى) الذي وهب حياته وقلمه لوطنه وأمته العربية، والذي توهجت في قصائده قدسية الشهادة والبطولات والتضحيات وروعة الفداء وعظمته… وأضاءتْ شعره وحياتنا:

ناداهمُ البرقُ فَاجتازوه وانهمروا

عند الشهيدِ تلاقى اللهُ والبشرُ

ناداهمُ الموتُ فاختاروهُ أغنيةً

خضراء ما مسَّها عود ولا وترُ

مرة أخرى، ونحن نحتفي بذكرى تشرين الجليلة.. التي ما فتئت نبراسنا وبوصلتنا.. أقول: أرض سورية العروبية الشآمية الطبيعية ستكون – لا بدّ – مقبرة للغزاة الصهاينة، والمشاريع الإمبريالية الأمريكية/ الغربية.. ومقبرة للرجعية العربية التي عُرفت تاريخياً بدورها الوظيفي التخريبي العميل… وستكون مقبرة للعثمانية الجديدة المعاصرة.. وللأفكار الوهابية التكفيرية النازية.. والمنظمات الإرهابية الدموية المتأسلمة الظلامية والباغية.. التي ما زالت تعمل على تدمير مبرمج لكل مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية في بلادي الباقية بقاء الزمان.

تحية شكر وتقدير وعرفان ووفاء إلى شهداء تشرين.. وِإلى كل شهداء الوطن على امتداد الأرض العربية السورية المباركة.. وكل ذكرى وسورية الخالدة وشعبها الصامد الأبيّ بخير وأمان وسلام…

العدد 1105 - 01/5/2024