الثقافة موقف وسلوك يومي

الثقافة تراكم معلومات وتفاعل معارف، يتحصل عليها المثقف من خلال تجاربه الحياتية المباشرة وغير المباشرة، باطّلاعه على نتاج غيره من أبناء وطنه، أو من كتّاب العالم وفلاسفته وأدبائه، على مدى العصور المتتالية. هي طريقة تفكير، ونمط حياة، ومنارة هداية، لتقويم اعوجاج في الفكر والسلوك، وهي دربة ومهارة في فهم العالم ومواجهة مشاكله.

العامل المحدِّد للمثقف يكمن في الكيفيات التي يتجسد فيها سلوكه في حياته العملية، وليس فيما يقوله ويصرّح به لسانه، فمواقفه الشجاعة وجرأته في الموقف من القضايا الكبيرة والصغيرة، والانسجام بين تلك المواقف وعدم التعارض بينها، هو مظهر من مظاهر التكوين الثقافي. فقد عرف تاريخ الثقافة العالمية- شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً- أسماء سجّلت مواقف ناصعة خوّلت أصحابها خلودهم، لأنهم دفعوا حياتهم ثمناً لتلك المواقف المبهرة.

يدهشك بعض المثقفين في أحاديثهم، وفي طريقة عرض آرائهم وتسويقها، لكنك سرعان ما تكتشف عند منعطفات السلوك اليومي بوناً شاسعاً بين ما يقولونه وما يفعلونه في الحياة العملية.

من السذاجة بمكان مطالبة المثقف بالتطابق التام بين ما يقوله وما يفعله، بين النظريات التي يطرحها، والممارسة الواقعية لها، فثمة مسافة فاصلة بينها، لكن أن يصبح الطلاق والقطيعة والتناقض هي الصفات الغالبة والمميزة للموقف، فهذا ما يخرج المثقف من دائرة الثقافة، ليضعه في خانة أهل الرياء والكذب.

ترى ما قيمة كتاب مركون على رف مكتبة أنيقة فخمة لم يطلع عليه أحد؟! أو ما هي أهمية مثقف لا يوائم بين أقواله وأفعاله، داعياً الناس إلى الصدق والاستقامة وهو غير تقيّ ويأمر الناس بالتقى..؟ طبيب يداوي الناس وهو عليل!

محكّ الثقافة في الكيفيات التي تتجسد بها في الواقع، فالممارسة الحياتية وحدها من يصدر الحكم على هذا المثقف أو ذاك، في مصداقيته ونزاهته وحرصه على ما يؤمن به، وليس كمّ الكتب التي اطلع عليها، ولا نوعها، ولو راح يجهد نفسه في التبشير بها.. فمهما كانت الأفكار نيرة وجليلة ومفيدة، فإنها تفقد قيمتها ومصداقيتها عندما نكتشف هشاشة العلاقة بينها وبين سلوك حاملها، فإذا أردت أن يصدّقك الناس ويؤمنوا بأفكارك وتحظى باحترامهم، فابتعد عن المبالغة والادّعاء المعرفي، واقترب ما استطعت من التواضع ولُذْ بالصدق، فهو أقرب طريق لوصول أفكارك وآرائك إلى قلوب الناس وعقولهم.

من أخطر الأمور في الثقافة: (النفاق الثقافي)، إذ يتلوّن حامل الثقافة في مواقفه حسب الطلب، فمرة يؤكد فكرة، ثم يعود إلى نفيها بعد حين، متوافقاً مع رأي محدثه أو الجهة التي يريد إرضاءها. فإذا كان التناقض في المواقف مكشوفاً، فالنفاق قد يغطّى بسحائب المعرفة المصطنعة، فيصعب كشفه من قبل عامة الناس.

وثمة خطورة أخرى يمارسها بعض المثقفين،إذ يتلاعبون بأقوال العظماء من الكتّاب والمفكرين، فيحدثون تحريفاً فيها أو يخرجونها من سياقاتها النصية ويقدمونها شواهد على مواقعهم ويبررون بها سلوكهم، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه التزوير المعرفي.

المثقف قادر على التبرير بما يمتلك من معارف، فهو يوظف معظم إمكانياته وملكاته، لتسويغ مواقفه وإقناع الآخرين بصوابية آرائه وسلامة مواقفه.. من هنا تأتي خطورة المواقف  الانتهازية التي يكون هدفها غالباً إرضاء ذوي الأمر والنهي، أو الحصول على مكاسب آنية سريعة لا تتناسب مع الدور الريادي والقيادي النقدي الذي يُفترض أن يقوم المثقف به، بوصفه رائداً وهادياً ومثالاً يحتذى في القول والفعل.

أما ثقافة النميمة والمثقف النمّام الذي يعتقد أن مجده لا يقوم إلا بتقويض أمجاد الآخرين، فلذلك حديث آخر…

 

العدد 1105 - 01/5/2024