وقفات مع صاحب (الرجال الجوف)…

(على المرء أن يكتب وهو يحسّ لا جيله بأكمله يسكن عظامه وحسب، بل يحسّ أن أدب أوربا برمّته منذ هوميروس، ومعه أدب بلاده برمّته يقفان معاً ويكوّنان نظاماً في وقت معاً…).

ت.س.إليوت

الشاعر والكاتب المسرحي والناقد والمفكر ( توماس ستيرنز إليوت) يعدّ واحداً من أكبر مجددي الشعر في القرن العشرين، ومن أبرز أعلام الشعر في الأدب الإنكليزي، بل عدّ أكبر شاعر إنكليزي معاصر بعد نشره (الرباعيات الأربع) خلال الحرب العالمية الثانية. فتجارب ت.س. إليوت الشعرية، وزناً وقافية، صياغة وأسلوباً، أعادت إلى الشعر الإنكليزي حيويته.. إذ حطمت الكثير من الأفكار الشعرية القديمة المحافظة.. واستحدثت وأبدعت أفكاراً جديدة منطلقة…

التحق (إليوت) بجامعة هارفرد، وتخرج فيها عام 1910، وقضى سنة في السوربون يدرّس الفلسفة والأدب الفرنسي.. وبعد ذلك عاد إلى هارفرد للدراسة العليا في علم النفس والمنطق والفلسفة واللغة السنسكريتية، ثم درّس الفلسفة الإغريقية في جامعة أكسفورد…

بدأ (إليوت) بنشر دراساته الفلسفية والأدبية في الدوريات الأدبية، وقد ظهرت أولى قصائده (أغنية حبّ) في مجلة (شعر) الأمريكية التي كانت تصدرها الشاعرة الأمريكية (هاربيت مونرو). وفي عام 1932 عيّن أستاذاً للشعر في جامعة هارفرد، وبعد ذلك حصل على جائزة نوبل في الآداب.

ولعل من المفيد – ها هنا – الإشارة إلى أن أعمال (إليوت) قد ترجمت إلى اللغة العربية منذ الأربعينيات، وترك شعره، إلى جانب أفكاره النقدية، أثراً واضحاً جلياً في الأدب العربي المعاصر؛ فقد تأثر به معظم الشعراء العرب الكبار، ولا سيما بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي من العراق، وصلاح عبد الصبور من مصر، وخليل حاوي من لبنان، وجماعة مجلة (شعر) اللبنانية.‏

كثيرة هي الدروب التي قطعها (إليوت) بدءاً من إعجابه بالشاعر (جول لافورغ) مروراً بالشعراء (بودلير، ومالارميه، وفاليري) إلى الرباعيات الأربع حيث الصراع مع العالم والحياة، والصراع بين الولادة والموت، والصراع الدائم والمتجدد… فالتشاؤم العميق الدفين كان يتغلغل في ثنايا قصائد (إليوت) ولاسيما فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية والجمالية في المجتمع، فهذه القيم، نتيجة للحرب العالمية الأولى، اضطربت وتمزقت واستوطن القلق واليأس والسأم والتشاؤم نفوس البشر… وقد ظهرت هذه العلامات قوية، بارزة في قصيدة (إليوت) الطويلة (الأرض الخراب) أو (الأرض اليباب)، التي أحدثت انقلاباً، بل ثورة في الشعر الأوربي، فقد أظهرت هذه القصيدة خيبة أمل كبيرة بالقيم الأخلاقية والروحية المعاصرة، كما بيّنتْ ثقافة (إليوت) الواسعة والعميقة.. وفي الوقت نفسه فتحت هذه القصيدة مرحلة جديدة للشعر الإنكليزي، وعدّت من أروع أعمال (إليوت) الشعرية باتفاق النقاد…

بعد ذلك، وفي حقبة زمنية أخرى، ظهرت على (إليوت) آثار النزعة الرمزية المسيحية، وحلّ شيء من الأمل والتوبة محلّ التشاؤم.. خاصة في (الرباعيات الأربع) و(أربعاء الرماد) وهي آخر قصيدة كتبها قبل رحيله في 5 نيسان عام 1965.. وإلى ذلك فقد اهتمّ (إليوت) اهتماماً كبيراً بأمرين حيويين بالنسبة إليه، فمن جهة اهتمّ شعرياً بتأثيرات الدين، وما وراء الطبيعة، ومن جهة أخرى اهتمّ بإحياء الشعراء الذين اتجهوا نحو (ما وراء الطبيعة) ولاسيما الشاعر الإنكليزي (درايدن) إذ ألقى سلسلة من المحاضرات في جامعة (هارفارد) نشرت، لاحقاً، تحت عنوان (فائدة الشعر وفائدة النقاد).

إضاءات

*في مجال الإبداع الشعري: عام 1917 نشر (إليوت) مجموعته الشعرية الأولى تحت عنوان (بروفروك وملاحظات أخرى) ومن سماتها كما نرى في جميع قصائده:

– (طغيان) الرمزية الفرنسية.

– الإيجاز، والتكثيف التعبيري الذي ينقل صورة محددة المعالم بعيدة عن كل ما لا يُعْتَدُّ به، وعن كل ما لا فائدة منه…

– إحضار الشعر الأوربي بمختلف لغاته.. انطلاقاً من رؤية تقول: على الشعر الجيد أن يكون نتاج خمسة وعشرين قرناً من الحضارة العالمية وخاصة الحضارة الأوربية.

– اعتماد منهج، أو أسلوب الشعر الحرّ المرسل..

– تبيان التساقط الحضاري والنفسي والروحي لدى الإنسان الأوربي…

*في الحقل المسرحي: ألّف (إليوت) الكثير من المسرحيات الشعرية، ومن هذه المسرحيات: (جريمة قتل في الكاتدرائية، الصخرة، حفلة الكوكتيل، السياسي المحنك…).

*في الفضاء النقدي: كان (إليوت) يرى، فيما يرى، أن من مهمات النقد الحفاظ على التراث، ومن مهمات الناقد النظر إلى الأدب في تطوره المتصل الحلقات بحيث يراه كلاً واحداً… وكان يرى أن هناك ثلاث دعائم لا بدّ منها لثقافة الناقد، وهي في الوقت نفسه من خصائص الشعر الجيد:

1- القيم الفكرية والروحية التي تتجلى في شعر (دانتي).

2- معرفة واسعة الطيف بالشعر الإنكليزي، والشعر المسرحي في القرن السابع عشر (شكسبير وجون دن).

3- معرفة عميقة بالرمزية الفرنسية، وفهم ما لدى شعراء أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا من ناحية ترابط الأفكار والمشاعر… وهكذا كتب ت.س.إليوت (وظيفة الشعر، ووظيفة النقد) تأسيساً على ما تقدم.

*في (الرجال الجوف) على سبيل المثال، يصل ت. س. إليوت إلى مستوى من التعبير الشعري العالي: نحن الرجال الجوف

نحن الرجال المحشوون

مائلون معاً

كتل أرؤس مملوءة بالقش. أواه!

إن أصواتنا اليابسة

حين نهمس معاً

هامدة وغير ذات معنى

هيئة ولا شكل، ظل ولا لون

قوة مشلولة، إيماء ولا حركة

الرجال الجوف ليسوا إلا الرجال المحشوين….. ‏

بقي أن نسأل: هل كان ت. س. إليوت على حقّ فيما ذهب إليه؟ وهل بعض (رجال) وقتنا الراهن يقعون خارج دائرة (رجال) إليوت المحشوين..؟ وهل القيم الأخلاقية والروحية والجمالية السائدة اليوم، محلياً وعربياً وعالمياً، هي أفضل حالاً من تلك القيم التي كانت سائدة آنذاك…؟ ‏

 

العدد 1105 - 01/5/2024