النزعة التحريفية للماركسية

ليس غريباً على النظام العالمي الجديد أن يستثمر إلى الحدّ الأقصى غياب السياسة في المجتمعات الغربية، وعفونة مستنقعات التراث الآسنة في المجتمعات الشرقية، لنسف العقل وميراث عصر الأنوار، لكن الغريب هو تمكّنه من استثمار العقل ذاته ورموزه في نسف العقل وتسخير هذه الرموز ليس فقط في خدمة حروب واشنطن وعدوانها على شعوب العالم، بل أيضاً في التغطية النظرية والسياسية لصعود الفكر الخرافي والتطرف والعنصرية والفاشية…الخ، ومحاولة زجّ قيم اليسار وأخلاقياته ورسالته في تبرير الوحشية النيولبرالية الجديدة.

النزعة التحريفية للماركسية تعبير لينيني يعني السير بعكس مسار التطور الطبيعي التقدمي للعقل المادي العلمي، بتلويثه ميتافيزيقياً أو مثالياً لاهوتياً وأسطورياً رجعياً، وكل ما رماه ماركس وراءه، بما في ذلك العقل الهيغلي السرمدي الثابت. فالطبيعة النقدية للماركسية وماديتها الجدلية والتاريخية قابلة لإعادة إنتاج ذاتها بذاتها، ومن ضمن سياقها المادي العلمي، ولا تحتاج إلى التطعيم بغيبيات ما وراء الطبيعة التي جرت تحت عنوان ترميم البيت اليساري.

ويركز لينين على الجذور الطبقية لتلك النزعة ويصفها بأنها التيار المعادي للماركسية في قلب الماركسية، وبأنها أمر محتم في المجتمع الرأسمالي حيث تتسرب مفاهيم البرجوازية الصغيرة إلى صفوف العمال الذين يظهر بينهم من لا يستوعبون سوى بعض جوانب الماركسية، ويعجزون عن التخلص من تقاليد المفاهيم البرجوازية (راجع المختارات م1-ج1 ص83 وص94). إنها نزعة نشأت وتطورت برعاية تامة من المؤسسات الرأسمالية المتنوعة بهدف عرقلة تطور القوى المنتجة، ومنعها من إحداث تغيير في الوضع العام لسيطرة الرأسمال، ولتضليل العمال وشق صفوفهم، ومن أسوأ مظاهرها، النكوصية الناجمة عن شراء الذمم والعقول والأفكار والأقلام التي حولت بعض مثقفي اليسار إلى كهنة في معبد الثقافة والسياسة الأمريكيتين. فبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت بذور الشك في العقل العلمي المادي في بعض العلوم الاجتماعية، محمّلة ميراث عصر الأنوار مسؤولية مآسي القرن العشرين وحروبه، وهي محاولة لصرف النظر عن مسؤولية الرأسمالية وأزماتها عن تلك المآسي والحروب.

ومن أهم منظري تلك العلوم ليو شتراوس الذي أعاد الاعتبار للوحي الإلهي وقدرته على حكم المجتمعات، واعتبر الأفكار التقدمية كارثة على البشرية. ويؤكد جورج قرم- المعارض لصراع الحضارات والمناهض للنظام العالمي الجديد- في كتابه الصادر عام 2014 بعنوان (مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط) الذي اهتم بكيفية توظيف الدين في السياسة الدولية، يؤكد أن شتراوس قد فتح شهية بعض النخب المثقفة على تحديد هوية الغرب كيهودية مسيحية، واعتبر الفيلسوف فرانسوا فورييه من أهم منظري إحياء التقاليد المضادة للأنوار، كما تحدث تحت العنوان الفرعي (سنوات الثمانينيات لحظة التحول إلى عودة الدين المزعومة) عن جملة حوادث تشكلت خلالها الأطر الدينية الجديدة، مثل رعاية واشنطن لتأسيس السعودية منظمة المؤتمر الإسلامي 1973 كأول مؤسسة تجمع دولاً على أساس ديني مناهضة للشيوعية وحركة عدم الانحياز، فعلى أراضي تلك الدول وبتأثير البيترو دولار نشأت الحركات الأصولية المتطرفة المنتمية إلى الوهابية، وترافق ذلك مع تصاعد التطرف للهوية اليهودية المسيحية عبر الإنجيليين الجدد في الولايات المتحدة، وجاء انتخاب البابا يوحنا الثاني عام 1978 في السياق ذاته، فقد شكلت رحلاته ونداءاته للشبان الكاثوليك تعزيزاً للشعور بالهوية الدينية وترسيخها.

وفي عام 1979 استدعت واشنطن المنظمات الجهادية الإسلامية لقتال القوات السوفيتية الملحدة في أفغانستان، وعززت من مكانة الدالاي لاما، المنفيّ، ليصبح شخصية رفيعة المستوى في الإعلام الدولي، كما أرسلت فرنسا من عمل على احتواء الشيوعيين وإضفاء صبغة دينية على الحراك الطبقي الإيراني، وفي العام نفسه رفع الرئيس كارتر مكانة إسرائيل الدولية من خلال الاحتفال الرسمي بذكرى ما سمي بالمحرقة، ولم ينتهِ عقد الثمانينيات حتى عبأت واشنطن كل القوى الدينية في العالم لمكافحة النفوذ الشيوعي.

باستثناء الأحزاب الشيوعية الغربية المعارضة لتمركز القوة والثروة في أيدي طبقة معينة والحاملة لهموم وقضايا الطبقة العاملة والساعية للقضاء على اللامساواة والمحافظة على عدائها للوحشية اللبرالية والعولمة الأمريكية ووليدتها الفاشية الدينية الرجعية، فإن كل مكونات ما سمي باليسار الغربي المبتعد عن الماركسية والموجه أولوياته نحو شعارات رأسمالية مزيفة، لتحل محل الصراع الطبقي، هي مكونات منحرفة، محتواة داخل منظومة الرأس مال بصفة خادم، وهذه المكونات هي الحزب الديمقراطي الأمريكي وحزب العمال البريطاني والأحزاب الاشتراكية الأوربية والحركات الديمقراطية الحليفة لها، وكذلك فئات من اليسار المتحول إلى الوسط واليمين وبعض اليسار العالمي والعربي التابع، وهؤلاء جميعاً شركاء في تعزيز العنف والتطرف والإرهاب ويبررون الحضور العسكري الأطلسي في العالم وتتناقض سياساتهم تماماً مع المبادئ الجوهرية لليسار ومع مصالح الشعوب وأمن العالم واستقراره، وتقوم بنياتهم النظرية على جملة من التحريفات والهوس ما بعد الحداثي الذي بدأ مع ألبير كامو وجان بول سارتر، الماركسيَّين بالأساس، من خلال تشويههما الوجودي للمادية الجدلية والتاريخية وتقديسهما شبه اللاهوتي للحرية المطلقة والتضخيم المرضي للفرد (أنا كما أبدو لنفسي) واستبدالهما بالوجود الموضوعي هذا الفرد المؤلّه، ونزعهما العلاقة المادية بين التفكير والوجود.

ومن أوائل المحرفين أيضاً كان إدغار موران الذي ترك الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1959 وراح يعالج مسألة ديكتاتورية البروليتاريا بحقن من العفوية التي سبق أن كشف لينين مسار تطورها المؤدي إلى إخضاع الحركة العمالية للأيديولوجيا البرجوازية (المختارات م1- ج1 ص196). وكذلك الفيلسوف والمؤرخ ليشك كولاكفسكي المطرود من الحزب الشيوعي البولندي، بعد الكشف عن نزعته التحريفية بعد الحرب العالمية الثانية وهو أثبتها بنفسه من خلال اتجاهه نحو فلسفة الدين التي كافأته عليها واشنطن بالتكريم والتتويج والجوائز المالية الكبرى التي حرم منها محرف آخر انتهى أيضا نهاية ظلامية هو روجيه غارودي، المطرود من الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1970، فقد حاول الجمع بين الكاثوليكية والماركسية، ثم لم يلبث أن أشهر إسلامه في جنيف 1982. أما سبب حرمانه من الرشوة الأمريكية وحتى من اعتراف مشايخ السعودية بإسلامه فهو أنه قد أبقى من كل إرثه الماركسي عداءه للحركة الصهيونية والسياسة الاستعمارية الأمريكية.

شكل دريدا وجيل دولوز وميشيل فوكو ثلاثي القطيعة مع الهيغلية والماركسية واستنهاض لنيتشه وقاعدة نظرية لانزياح فوضوي أخطر وأحط مما سبق، تلبثت به مجموعة شاذة نفسياً وفكرياً تعجّ بالصهاينة وعملاء المخابرات الأمريكية كلفت بتحطيم قيم اليسار الجوهرية، أطلق الإعلام عليها سمة الفلاسفة الجدد، ويعتبر ميشيل فوكو الذي شارك في ثورة طلاب باريس 1968 بمثابة المرشد لتلك المجموعة، وهو من أشد المعادين للستالينية والاتحاد السوفييتي. وهذه الظاهرة تجمع كل المحرفين من تلامذة سارتر الذين قادهم شططهم الفكري إلى شق صفوف الحركة العمالية العالمية قبل أن يلقوا نهاياتهم الظلامية، ومنذ أن أطلق كتاب سارتر (شبح ستالين) على بساط الريح أحلام كوهين بينديت ورودي دوتشكه وآلافاً من الطلاب المغامرين والمنفعلين، للقفز فوق الظروف الموضوعية للثورة التي أحبطت وأطفت خلال أيام مفصلية حاسمة ألق الأنوار وافتتحت عصر الظلمات الجديد.

العدد 1105 - 01/5/2024