هل يُمكن استعارة أجناس إبداعية من حضارات أخرى؟!

ثمة الكثير من الأنواع الإبداعية، هي اليوم ملء الساحة الثقافية وشاغلتها، لاتزال تُعتبر إلى اليوم؛ أنها فنون وافدة، ومن هنا ثمة من يرى مبرراً لعدم البروز فيها إلى القمة، هكذا كانت توصف الرواية والمسرح والفنون التشكيلية المعاصرة، وغيرها الكثير؛ على أنها فنون وافدة على الثقافة العربية.

حالات كاريكاتورية

لكن، ورغم (وفادة) هذه الفنون على الثقافة العربية، غير أنه كان لها إرهاصاتها القديمة في الكثير من تفاصيل الثقافة في العالم العربي. لكن أن نأخذ فناً كاملاً منقطعاً تماماً عن الثقافة العربية، ثم ندّعي أننا (نُعرّبه) لاسيما إذا ما كان هذا الفن؛ يُعتبر من كلاسيكيات ثقافة هذه الحضارة، فإن مسألة (تبييئه) تبدو أقرب إلى الحالة الكاريكاتورية. على سبيل المثل اليوم، وعلى جدران هذا (الأزرق) ثمة عشرات الصفحات، والمواقع الإلكترونية، إضافة إلى عشرات الكتاب الفيسبوكيين الذين يدعون جميعاً تخصصهم بنشر شعر (الهايكو) لكنه ليس شعر الهايكو الياباني المغرق في القدم والموغل في التاريخ حتى أصبح من أهم ملامح الثقافة اليابانية، بل ذلك (الهايكو المحلي) أو ذي التجميع المحلي، على عادة بعض الصناعيين العرب في نيل بعض التراخيص من شركات يابانية وصينية وغيرها لتجميع صناعة السيارات أو معجون حلاقة، و.. غير ذلك من الصناعات التجميعية، التي بفضل هذه التراخيص للتجميع خسرنا الأصلي، ولن نصل إلى صناعة محلية حقيقية.

عن الهايكو المحلي

الهايكو المحلي الذي ينتشر بكثافة اليوم على شبكة الانترنيت، يبدو في طريقه إلى أن يصدر ورقياً بمجموعات شعرية، تحت مُسمى (هايكو) غير أن قراءة بعض ما يُنشر من (الهايكو المحلي) وتأملاً قصيراً فيه يكشف للمُتابع أنه يبتعد عن شهر الهايكو بمسافة بُعدنا عن اليابان نفسها، وهنا المسافة بشقيها المجازي والواقعي، لأن كل ما يُقدم اليوم على أنه شعر هايكو يندرج تحت ثلاثة أجناس أدبية محلية، وهي: القصة القصيرة جداً، قصيدة الومضة، والخاطرة. وكأن المصطلح المحلي ضاق بما يكتبه (الشعراء الهايكويين) فكان أن استعاروا له اسماً يابانياً عريقاً.

واستحالة أن يكون الهايكو محلياً تبدو حقيقية، تماماً كسيارة الـ(تويوتا) التي لا يمكن أن تكون غير يابانية، وكما أن شاعر الهايكو لا يمكن أن يكون غير يابانياً، تماماً كصانع الـ (تويوتا) الياباني، حتى وإن قاد السيارة سائقون من جنسيات مختلفة، فقيادة سيارة الـ (تويوتا) لا تعني أن السائق هو من صنعها، وما يفعله الكتاب الفيسبوكيين لا يعدو في أفضل حالاته، أن يكون كقيادة العربي لسيارة الـ (تويوتا)، أي أن الأمر هو مقاربة لشعر الهايكو، وليس هايكو حقيقياً!

حواجز المجاز

وأول موانع كتابة الهايكو بغير اللغة اليابانية هو المجاز، فالشاعر الياباني الذي يُقدم شعر الهايكو، يقدمه هكذا صرفاً مباشراً وواقعياً، ومثل هذه الكتابة في اللغة العربية هي (سقطة) أدبية كبيرة وليست شعراً، بل تبعد أي نص مباشر عن أن يكون إبداعاً، والإبداع في اللغة العربية هو صيد المجاز والصورة الفنية المحلقة في فضاءات الخيال وانزياحاته، حتى أنه عند ترجمة شعر الهايكو إلى اللغة العربية، فغالباً ما يصيرُ جنساً إبداعياً غير الهايكو، فهو يتخلى كثيراً عن (هايكويته) إن صحّ التعبير، لأن المتذوق المتلقي العربيين ولما عُرف عنهما من ذهنية التأويل والإيحاءات للمفردة، سيضعان مجازاتهما الخاصة لما بين يديهما من هايكو. وكل ما قُدم اليوم، وحتى ما تُرجم من شعر الهايكو هو أقرب للتعريف والمقاربة والمعادلات البسيطة لما يمكن أن يُقرّب مفهومنا من شعر الهايكو، أو هي تطعيم للحساسية الجمالية المحلية، في أفضل نتاج منه حتى اليوم.

وعلى ما يذكر الشاعر السوري محمد عُضيمة المقيم في اليابان، والذي كان أكثر (العرابين) للثقافة والأدب الياباني، ولشعر الهايكو على وجه الخصوص، وله في هذا المجال كتب كثيرة من أنطولوجيات ومختارات وترجمات عديدة. يقول عُضمية: في حواراتي مع الشعراء اليابانيين، وجدتهم يجمعون على أن شعر الهايكو قصير جداً لقول كل ما يودون قوله، ويجمعون أيضاً على أنه الشكل الشعري الأشد التصاقاً بالروح اليابانية حتى الآن. ويضيف عُضيمة؛ والجميل على هذا الصعيد، هو لفظة (شعر) فهي لا تُطلق على شكلي الهايكو والتانكا، كما تسمية (شاعر) لا تُطلق على من يُمارسهما، يُقال (هايكو) فقط، أو تانكا فقط، والأخير أيضاً شعر ياباني موغل في قدمه في الثقافة اليابانية، ويُقال عمن يكتبهما (هايكوي وتانكاوي) وهما يُكتبان باللغة اليومية اليابانية، أو العامية، حتى أن (شاعر اليابان لدى العرب، او شاعر العرب لدى اليابانيين) وأقصد عُضيمة، يفضل ترجمة هايكو دون سبقها بلفظة شعر أو قصيدة مع التذكير وليس التأنيث.

(يا للبركة العتيقة

قفزت ضفدعة

صوت الماء. (باهو (1644 -1694)

يأخذه عُضيمة – في كتابه الأميز (كتاب الهايكو) – كمثال على أنه أشهر هايكو في اليابان وخارجها، وثمة نص آخر بالمعنى ذاته لياباني آخر هو ريوكان ( 1758 – 1831 ):

يا للبركة الجديدة

قفزت ضفدعة

لا صوت للماء)

وماذا عن المتوفر؟

يرى عُضيمة أنه يستحيل للعربي أن يقرأ في هذه البركة بركة وحسب، بل برمز لشيءٍ آخر، كما لا يمكن أن يكون الماء ماء، والصوت لن يكون صوتاً، فعندما وقف البحتري على بركة المتوكل الاصطناعية – في قصيدته المشهورة – تحوّل الماء الوافد إلى خيول، والأسماك إلى طيور ودجلة يغار منها. بل يرى الناقد عُضيمة وحتى نفهم هذا الـ هايكو نحتاج إلى ذهنية ياباني قديم وليس جديداً، لفهم علاقته مع الطبيعة، فهنا لا شيء مخفياً في الهايكو، وهو هنا ليس أكثر من الاحتفاء بهدوء الطبيعة.!

والحال كذلك، هل ثمة أمل بنجاح كتابة هايكو محلي، وهل من الضرورة كتابة نوع أدبي موغل في قدمه في الثقافة اليابانية، أم نشد العزم لتكريس المتوفر محلياً والإجادة به، بعد كل هذا الحبر المُراق، ولا شيء يهز الروح؟!

العدد 1105 - 01/5/2024