الوقت.. التخلّف.. الثقافة والحريّة

الوقتُ عبر العصور، ولا سيما في عصرنا المعاصر والراهن، هو بمثابة العمود الفقري للحياة الإنسانية على المستويين الشخصي والجماعي، وهو مسألة حضاريّة حيويّة… والوقتُ – من قبلُ ومن بعدُ – أداة العمل، وتحصيل الرزق والعلم والثقافة وبناء المستقبل والحضارة، وكلّ شيء، إذا استعمل.. والوقت آفة العمل والرزق والعلم والثقافة والحضارة، إذا أهمل.

ولا غرابة في ذلك، فالوقت ثروة، بل هو من أهمّ الثروات التي على الإنسان أنْ يقبض عليها… والحياة الإنسانية، في مختلف الميادين وعلى المستويات كافة، إنْ لم تحافظ على الوقت، وترفض الثابت والجامد والساكن والرتيب والمغلق.. وتأخذ بالمتحرّك والمتغيّر والمنفتح.. وتقوم على الجهد البنّاء، والتفكير الخلّاق، وحسن إدارة الوقت.. هي حياة (عدمية) بلا معنى ولا هدف ولا قيمة حقيقية لها على الصعيد الفردي والمجتمعي والحضاري… والمعطيات كلّها تشير إلى أنّ هناك رابطة بين الحياة الإنسانية والوقت أشبه برابطة مرور قطعة خشبية على أسنان منشار يعلو وينقضّ كصاعقة قاتلة.. فالوقت يجري، ويتدفق تدفقاً مذهلاً، ويندفع إلى الأمام بلا رجعة، فليس هناك أية إمكانية للارتداد إلى الوراء والعودة إلى لحظة زمنية مضتْ إلا في حيّز المجاز والعوالم العقلية والعاطفية والنفسية والتخيلية…

ها هنا لا بدّ، فيما أرى، من كلمة موجزة عن (وقت الفراغ) لأهميته الكبيرة وأخطاره الجسيمة، ولأنه يحمل بين طياته السلبي والإيجابي.

الشاعر العباسيّ المبدع والزاهد (أبو العَتاهِيَة) يرى:

إِنَّ الشَّبابَ والفَراغَ والجِدَهْ

مَفْسَدَةٌ للمرءِ أيُّ مَفْسَدَهْ

أما الفيلسوف سقراط، الذي اتخذ من عبارة (اعرف نفسك بنفسك) قاعدته وحكمته الخالدة.. فقد قرّر:

(إنّ وقت الفراغ لهو أثمن ما نملك).

تُرى هل هناك تناقض أو ضديّة بين رأي (أبو العتاهية) والذي قرّره (سقراط)؟ ليس هناك أيّ تناقض؛ فمن جهة إذا لم يستثمر وقت الفراغ بشكل إيجابي بنّاء فسوف يؤدي، غالباً، إلى سلوكيات منحرفة، غير سوية، محطِّمة، فاسدة ومُفسدة.. وإلى حياة خاوية… ومن جهة أخرى اللهو الإيجابي والمرح والضحك والفكاهة والترفيه والترويح.. جسدياً، روحياً، عاطفياً، اجتماعياً، تربوياً وثقافياً وفنياً…هو ضرورة قصوى للحياة الإنسانية؛ فنحن أثناء عملنا اليومي، وممارسة حياتنا الواقعية بمختلف أوجهها.. يخيّم علينا التعب والحزن والملل والوحدة والعزلة.. ويسري في أعطافنا التجهم والانقباض والسأم والضجر والكآبة.. ونحسُّ بجفاف الحياة فنسخط عليها وعلى عيشنا معاً في آن واحد، فتئنُّ أبداننا، وتملُّ قلوبنا، والقلوب إذا كلّتْ عميت… ولهذا كله لا بدّ لنا، كما قلنا، من اللهو والترفيه والترويح… ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في وقت الفراغ الذي، إذا أدرناه إدارة إيجابية فعّالة، يجدّدنا، ويعيد إنتاجنا، ويقيم فينا التوازن، ويدفعنا إلى حياة مجدية ومعطاءة ومبدعة… ‏

ويبقى السؤال: هل هناك علاقة طردية سلبية بين الوقت والجهل والتخلف والثرثرة والأمية الأبجدية والفكرية والحضارية؟ وهل القول: كلما اتسعتْ مساحات الجهل والتخلف والثرثرة والأمية.. ضاقتْ مساحات البناء الثقافي والحضاري، بالمعنى الشامل للكلمة، هو قول صحيح؟

إن الجهلة والمتخلفين دائماً – كما يقول أنطون مقدسي – لا يتكلمون (الكلام الحقّ)، بل يثرثرون… وعلى ذلك فالجهلة والمتخلفون والثرثارون وعموم الأوساط والبيئات غير الحضارية لا يحترمون الوقت احتراماً حقيقياً، ولا يبذلون أيّ جهد في سبيل المحافظة عليه، بل لا يعيرونه انتباهاً، ولا يعون أهميته الجليلة في مجالات حياتهم المختلفة، كما لا يدركون أن الوقت لا يرحم المتخلف عن مواكبته، وأنه هو الأساس لأي نجاح في أي ميدان من ميادين الحياة.. ولا يعرفون أن من يحترم الوقت، يحترم الحياة كلها من ألفها إلى يائها.. ولا يعرفون كذلك، أنّ مَنْ يسلبك مالك فقد سلبك حطاماً على حدّ تعبير شكسبير، ولكن من يسلبك وقتك وشرفك فقد سلبك أعزّ ما تملك… ‏

وكثيراً ما كان الراحل ممدوح عدوان، الذي كانت الثقافة شغله الشاغل وهاجسه الحقيقي الأكبر، يردّد: (أنا ما زلت أعتقد أنني يجب أن أعمل أكثر.. وكل يوم لا أعمل فيه أحسّ بشيء ينهشني.. ومحمود درويش يقول لي: ممدوح هل يمكن أن يكون يومك سبعين ساعة؟!.. وأنا أجيب: طبعاً يومي سبعون ساعة.. وأنا إذا ندمت على شيء فإنني أندم على كوني قد أضعت وقتاً كثيراً في شبابي)؟! ‏

ها هنا، مرّة أخرى، يلد السؤال الآتي: ‏

هل هناك علاقة طردية سلبية بين الثقافة بدلالاتها العميقة وأبعادها المختلفة، والجهل والتخلف والأمية الأبجدية والفكرية والحضارية..؟

استقراء السؤال يقول: العلاقة الطردية السلبية موجودة، لابدّ، بينهما، فكلما اتسعت مساحات الجهل والتخلف والأمية.. ضاقت مساحات الثقافة، والعكس صحيح. ولعل من المفيد في هذا المقام الإشارة إلى أن صناعة الثقافة لا تقل أهمية عن صناعة السلاح، والعمل على بناء جبهة ثقافية متراصة متقدمة ومتنوّرة.. لا يقل أهمية عن العمل على بناء الجبهة العسكرية، فالكلمة كالرصاصة إذا انطلقت لا يمكن لأحد، كائناً من كان، أن يردّها، وقد تبني.. وقد تصيب مقتلاً… ‏

ولكن هل يمكن أن نتصوّر ثقافة حقيقية تحظى بالمسؤولية والصدقية والمصداقية بلا حرية؟

هنا، أيضاً، علاقة طردية سلبية بين الثقافة، والقيود والتسلّط والإرهاب الفكري والتكفيري… فكلما اتسع نطاق التشدّد والتعصّب والتسلّط.. ضاق الفعل الثقافي، وقلّ العمل الإبداعي عموماً، والعكس صحيح. إن الثقافة الحقيقية لا تنمو ولا تزدهر ولا تعطي أُكُلَها إلا في مناخات الحرية (حرية التنظيم، الاختيار، التعبير، التفكير…) والتعددية والديمقراطية واحترام الإنسان وحقوقه في مختلف المجالات والميادين(…). ‏

إنّ (الثقافة) الظلامية الإرهابية، والمتعصبة التكفيرية التي لا تعترف بوجود الآخر، ولا تقرّ بحقه في الحياة والرأي المخالف.. وكذلك (الثقافة) السلعية/ التجارية، والنفاقية، والتقريظية الجوفاء، و(الطبّالية) والخانعة.. ‏هي (ثقافة) سطحية تسطيحية، دمويّة وتدميريّة على الصعد كافة (…) تجعلنا أشلاء متناثرة على قارعة الحياة والحضارة… ‏

الثقافة التنويرية، إن لم نقل أكثر، وثقافة المقاومة الشاملة، وثقافة المساواة والعدالة التي هي فوق أية ثقافة أخرى، وثقافة الحوار التي تعترف حقاً وحقيقة بوجود الآخر، وترفض رفضاً مطلقاً الحَجْرَ على هذا الآخر المخالف، و(إعدام) أفكاره وآرائه ووجهات نظره.. هذه الثقافة التي تقوم على دعائم التنوير والمقاومة والمساواة والعدل والحوار.. هي، وحدها، الثقافة التي تكفل بناء مجتمع عادل، تقدمي، ديمقراطي وعلماني.. مجتمع حضاري، إنساني، متعدد وحرّ يليق بالحياة الكريمة وبإنسانية الإنسان ومفردات وجوده… ‏

 

العدد 1105 - 01/5/2024