الحزب وسـياسة التحالفات

يبدو أن هناك محاولات تحدث مؤخراً بعد تعيين الزعبي نائباً لرئيس الجبهة الوطنية التقدمية تسعى لتنشيط عمل الجبهة بعد إهمال طويل لدورها، وقد طلبت قيادة الجبهة من الأحزاب المشاركة في التحالف اقتراحات حول تطوير عمل الجبهة وتفعيله، وعلى هذا يعود موضوع التحالف إلى ساحة البحث قبل صياغة وثيقة جديدة له.

التحالفات قديمة قدم الأحزاب السياسية فهي ليست ظاهرة جديدة، وهي ليست مرتبطة بفرق سياسية معينة، فهي جرت عبر التاريخ وفي كل الدول وبين مختلف الأحزاب والشرائح الاجتماعية، وفي الحقيقة لا يوجد حزب جدي لا يقوم بتحالفات في مراحل محددة من تاريخه، فالتحالف هو سمة أساسية من سمات النشاط الاجتماعي السياسي يحدث نتيجة التقاء مجموعة من المصالح لقوى اجتماعية وسياسية مختلفة في فترة تاريخية محددة.

وقد تكون التحالفات طويلة أو قصيرة الأمد، وقد يكون لها طابع استراتيجي أو طابع تكتيكي، ورأى لينين أنها ممكنة بما ينسجم مع برنامج الحد الأدنى التكتيكي للحزب، وقد صاغ سياسة التحالفات في هذا المجال على أرضية اجتماعية، أي على أرضية مصالح الطبقات المستثمَرة في المفهوم الاشتراكي.

شروط لينين للتحالفات

قبل لينين بالتنازلات السياسية على شرط أن تخدم هذه التنازلات الاستراتيجية العامة للحزب، وعلى التحالف أن يقوم أولاً بشكل طوعي، وثانياً بشكل متكافئ، وأن تقدَّم تنازلات متبادلة من كل الأطراف إن كان هناك تنازلات ما، مع الحفاظ على الاستقلالية التامة لكل حزب وعلى حقه في الانسحاب من هذا التحالف عندما يرى ذلك مناسباً لمصالحه السياسية ومصالح جماهيره، وقد رفض لينين رفضاً قاطعاً أي تنازلات في المسألة الإيديولوجية.

لقد أكد ميثاق الجبهة أنها (تكريساً للتعددية السياسية والانفتاح الجدي على الجماهير، وحشد كل القوى الوطنية والقومية، والمشاركة في مسارات التحولات والتغيرات في سورية، وتوحيد نضالها وطاقاتها الشعبية وحركتها السياسية في بوتقة العمل الوطني والقومي، والحوار البناء والنضال المشترك بما يرمي إلى تعزيز الكفاح الوطني والقومي في مسيرة البناء والتحرير، وترسيخ إرادة الجماهير وتفعيلها في تنظيم المجتمع، وإطلاق الإرادة السياسية وحماية المنجزات والمكاسب الشعبية الاقتصادية والاجتماعية) فهل كان هذا ما تحقق؟

لقد قبلت قيادة الحزب الشيوعي السوري آنذاك بالتحالف وفق رؤيتها الثابتة في دعم مفهوم التحالف الوطني قبل الاستقلال، ثم التحالف الوطني التقدمي بعده مقدمةً تنازلات مهمة في سبيل ذلك، فقد تخلت عن العمل بين الطلاب، وتركت قيادة الجبهة لحزب البعث، فقد ورد في ميثاق الجبهة (بتمثيله بالأكثرية في مؤسساتها جميعاً، وأن يكون منهاج الحزب وقرارات مؤتمراته وميثاق الجبهة موجهاً أساسياً لها في رسم سياساتها العامة وتنفيذ خططتها).

وإذا كان الشرط الثاني مبرراً بشكل ما، فهو الحزب الأكبر والمهيمن على السلطة، فإن التخلي عن العمل بين الطلاب كان في جوهره تخلياً عن المستقبل وترك الساحة للفكر السلفي الرجعي يرتع فيها كما يشاء، وكانت النتيجة الكارثة: فقدان وجود الحزب وحضوره بين الشباب، وعلينا الآن أن نبذل جهداً مضاعفاً لتلافي هذه الظاهرة.

لقد وجهت انتقادات كثيرة من قسم كبير من الرفاق ومن قوى سياسية لشروط هذا التحالف، لكن القيادة آنذاك أصرت على التمسك به على اعتبار أن الحلقة الرئيسة في هذه المرحلة هي التناقض بين مصالحنا الوطنية، ومطامع الإمبريالية العالمية، وأن كل ماعدا ذلك تناقضات ثانوية يجب ألا تُبنى سياسة التحالف عليها، وكل ذلك كان صحيحاً ولا يزال! لكن الثمن كان باهظاً لنا وللوطن نتيجة هذا التنازل.

هل كان يكفي موافقة الأمين العام أو المكتب السياسي آنذاك على شرط سيحدد مستقبل الحزب لعدة عقود قادمة ؟ ألم يكن من الأجدر دعوة مؤتمر وطني لمناقشته وإقراره ؟ نترك الجواب للتاريخ الذي لا يرحم أحداً. وهنا نصل إلى إشكالية أخرى في آلية عمل الأحزاب الشيوعية عموماً والسوري بشكل خاص ألا وهي غياب الديمقراطية التي مازلنا نعاني منها في الحزب حتى الآن بشكل أو بآخر.

على أية حال لا نستطيع القول إن الجبهة كانت مشاركة سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة، كانت مشروعاً لم يكتمل، وكان الأمل أن تتطور لاحقاً، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد ما يقارب 30 عاماً وكان هذا التطوير جزئياً ومبتوراً، إذ سمح لأحزاب الجبهة بالعمل بين الطلاب بعد ملاحظة تفشي الفكر السلفي بين الشباب، كما سمح بإصدار صحافة علنية تخص أحزاب الجبهة، لكن ذلك جاء متأخراً جيلين كاملين ! كما أن هذا التطوير لم يؤد إلى تفعيل الجبهة.

إضافة إلى ما سبق فقد أعاقت الشروط الذاتية للأحزاب المشاركة تطور هذا التحالف، فالبعث كحزب قومي راديكالي لم يستطع تطوير مسألة المشاركة السياسية وفضل عليها سياسة الاحتواء والهيمنة على الأحزاب الأخرى وذلك خوفاً من الوقوع في أحضان اليسار فوقع في أحضان اليمين الطفيلي الذي تغلغل فيه تدريجياً وأبعد كوادره اليسارية عن مراكز القرار وعن قيادات النقابات والمنظمات الشعبية المختلفة خاصةً تلك الشخصيات التي وقفت ضد الفساد.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم تستطع الأحزاب الأخرى في الجبهة الاستفادة من هامش المشاركة الضيق الذي أتاحته الجبهة، ولم تنجح دائماً في أبراز وجه حزبها المستقل، وتراجعت شروطها الذاتية فتوالت فيها الانقسامات، وعزفت عنها الجماهير، وانسحب منها الكثير من الرفاق، وبقيت مجموعات قليلة تغلغلت فيها الانتهازية وتحولوا من آلاف إلى بضع عشرات.

والسؤال الآن: هل حققت الجبهة الوطنية التقدمية الأهداف التي قامت من أجلها ؟

لقد كانت الجبهة نقلة نوعية في رؤية حزب البعث للمشاركة السياسية في سورية، وساهمت بتمتين الجبهة الداخلية في حرب تشرين، كما دعمت صمود سورية في وجه مخططات الإمبريالية في المنطقة بعدها، وكان لها أثراً مهماً في الوقوف أمام التحالف الإمبريالي المتوحش الحالي ضد سورية، لكنها لم تستطع وقف انحدار البعث باتجاه اللبرلة الاقتصادية، حتى أنه في مؤتمره العاشر أقر مبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي الذي هو في جوهره إقرار بالعودة إلى اقتصاد السوق الحر، وبدأت السلطة التنفيذية بتقليص مساهمة الدولة في الدعم الاجتماعي، وبذلك فقدت الجبهة بعدها التقدمي وبقي بعدها الوطني.

إن هذه السياسة الاقتصادية أصبحت مخالفة لميثاق الجبهة في الحفاظ على المنجزات والمكاسب الشعبية التي تمت في السابق، وهي مخالفة أيضاً لدستور البلاد السابق الذي أكد أن التوجه الاشتراكي هو الطريق لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحملنا نحن أمام الجماهير مسؤولية مخالفات البعث دون أن نكون مشاركين بصنع القرار! مع ذلك أقول: أن التزامنا بالتحالف في بعده الوطني شديد الأهمية في هذه المرحلة بالذات ما دام البعث يقاوم مخططات الإمبريالية المتوحشة في المنطقة، وعلينا بذل كل الجهد لتثبيت ودعم هذا الموقف الوطني، والسعي لتطوير التحالف بما يخدم هذا التوجه في السياسة الداخلية والخارجية.

هناك محاولات الآن ـ كما سمعنا ـ ترمي إلى إحياء وتفعيل دور الجبهة، وهناك شائعات تقول إن البعث سيتخلى عن اقتصاد السوق الاجتماعي وأنه سيعود إلى التوجه الاشتراكي أو على الأقل إعادة دور الدولة في دعم ميزان العدالة الاجتماعية المختل، وفي هذه الحالة تحافظ الجبهة على بعدها التقدمي، أما إذا كان ذلك إشاعات لا أكثر ! فإن التمسك بالبعد الوطني يقتضي توسيع الجبهة لتضم كل القوى والأحزاب التي انتهجت نهجاً وطنياً ووقفت موقفاً صريحاً ضد التدخل الإمبريالي المتوحش وضد أدواته من الإرهابيين وذلك بقصد تمتين الجبهة الداخلية أمام هذا الغزو المتوحش وعملائه الداخليين والخارجيين، وأن نستمر في النضال من أجل تطوير قانون الأحزاب وقانون النشر والإعلام، وأن نستمر في فضح البيروقراطية والفساد، وأن نستمر في النضال من أجل سيادة القانون والمساواة التامة بين المواطنين أساساً للمصالحة الوطنية اللازمة للحل السياسي الوطني القادم، وبناء دولة علمانية ديمقراطية حديثة.

العدد 1105 - 01/5/2024