العُمْرُ كالحُلْمٍ زَائلُ

إلى صديقي.. ورفيق دربي.. الأديب المبدع.. الكاتب والصحفيّ باسم عبدو.. في الذكرى الأولى لرحيله القاسي…

أَعِرْني بعضَ شجوكَ يا حَمامُ

فقد غلبَ الأسى وعَصى الكلامُ

وأيّةُ بهجةٍ للنَّفْسِ تبقى

إذا ذهبتْ أحبَّتُها الكرامُ؟

الأخطل الصغير

مرّةً أخرى يا باسم.. أكتبُ في سِفر رحيلكَ الصعب.. (صباح يوم الأحد 29/ 11/ 2015) وكينونتي ما زالتْ في أوج اشتعالها، ونشيجها الإنساني الحزين الجليل.. وأنا ما برحتُ أتأمّلُ غيابكَ المعنّى.. وأردِّدُ بشفاهٍ ثكلى: (ما حيلتي.. يا باسم.. إذا كنتَ أنتَ جميلاً.. وحظّي قليل…).

نَعَمْ.. بفَقْدكَ.. انكسرتُ.. ذابَ قلبي.. تفطّرتْ روحي.. ومادت الأرض تحت أقدامي… فكيف استطعتَ يا باسم.. وأنا صديقكَ، ورفيقكَ، وخليلكَ، وحبيبكَ السّيّئ الطالع… أن تباغتني بهذا السفر الأبدي الموشّح بالأرجوان، وزرقة النار، والدمعة الحرّى الهتون..؟ وكيف استطعتَ أنّ تحملَ صليبكَ وإكليلَ شوككَ.. وتمضي إلى ملكوتكَ السماويّ.. وتتركني وحدي مع صليبي وإكليل شوكي في جحيم أرضيّ.. ملقى على قارعة هذه الدنيا المدمّاة، وهذا الزحام العقيم، وهذا الخراب المقيم..؟!

باسم..! أتذكرُ كيف كان وجهكَ السمح يضحك.. ويشرق بالفرح والمحبة.. حين كنتُ أشدّ على كتفيكَ، وأبوسُ جبينكَ العالي..؟ أتذكرُ كيف كان عمري الشقيّ يخضرُّ بقربكَ.. وروحي الشريدة كيف كانت تزهرُ بين يديكَ..؟ ذاكرتي التي تئنُّ وتهمي لم تنسَ شيئاً.. يا أبا شفيع..! ستبقى حيّة تفيضُ بالذكرى إلى أن تغربَ شمسُ حياتي، وتستقرَّ بجواركَ قَرِيرَةً.. ولا أظنُّ ذلك إلا على الأبواب..؟!

يا طائر الشام المُعَنَّى…

لماذا، دونما إنذار.. ودونما أعذار.. خلعتَ الحياةَ، وارتديت الردى، وفارقتَ مَنْ يحبّكَ وتحبّهُ..؟ ولماذا تركتني وحيداً مُحاصراً بوقتٍ مالح وأشباه رجال.. وبكل أشكال الفساد، والاضطراب الأخلاقي والقيمي.. ومُحاصراً بمناخ عربيّ وإقليميّ وعالميّ مخاتل، خسيس ومزرٍ.. يمطر دماً وقهراً وفقراً واستغلالاً واستعباداً وهيمنة وفكراً ظلاميّاً إقصائياً سكونياً.. مُحاصراً بأوغاد وطواغيت.. وبهذا الطاعون الأسود الذي يَرْهَبُ النور وضوء النهار..؟

أبا شفيع..!

أنا ما زلتُ أمشي في طريقي.. وفي خُطاكَ… تلك الخطا التي تقول بلا شبهة: إنَّكَ لم تكن، في أيّ يوم، مدّاحاً وطبّالاً ومُسبّحاً بحمد العروش والمستبدّين والمهيمنين… ولم تكن، في أيّ وقت، بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مذاق.. وبلا قضية وبلا مبدأ… كان لكَ عطركَ وقيثارتكَ ورؤاكَ.. وعالمكَ الإنساني الوارف الظلال… تمسّكتَ بالثقافة الوطنية التنويرية.. بثقافة الرسالة (…)، ووقفتَ بحزم وشجاعة وقناعة ضد التعصب والتطرف والإرهاب.. وضد المذهبية والطائفية والفئوية.. في مختلف الميادين، وعلى جميع المستويات. وناهضتَ، بلا هوادة، تلك المخلوقات القاتلة، الدموية والمتوحشة… وناهضتَ، حتى لحظة رحيلك، الثقافة التكفيرية الخارجة من الكهوف والظلمات والمذابح وفقه الحقد والكراهية…

يا كوكب الروح المُنَدَّى…

أَشْهَدُ أنَّ الوجع والحزن رفيقا الإنسان، في معظم الوقت، منذ أنْ يرى النور.. إلى أنْ ينطفئ، ويمضي في رحلته الأبدية… وأَشْهَدُ أنّ العمرَ كالحلم زائلٌ.. كما أشهد أنّ لكل شيء نهاية… ولكن عندما نفقدُ من نحبّهُ يصير الزمان والمكان مُوحِشين.. ونحسّ بالأسى والشجن والغربة.. مدى العمر… وأنا افْتَقَدتكَ.. افْتَقَدتكَ… والأبطال وحدهم – ربّما – هم الذين لا يخشون، ولا يخافون من الموت.. وأنا لستُ واحداً من هؤلاء.. وربّما (الأقوياء) فوق الحزن والأسى.. وأنا أمام من أحبّ ضعيف حتى التلاشي والفناء…

أبا شفيع..!

كلّ يوم، وأنا في الهزيع الأخير من الليل، تمتزج صرختي الحزينة، المنكَسِرة.. بصرخات (جلجامش) المدوية، الموجعة.. وهو يحمل بين يديه (أنكيدو) الذي قضى نَحْبه… لأنكَ، يا أبا شفيع، رحلتَ قبل أن يتبيّن الخيط (النوراني) من الخيط الظلامي.. وقبل أن يبتدئ الزمن السوريّ/ العربيّ الأبيض المنير.. وينطفئ الزمن الهمجيّ المجلّل بالسواد والغُمَّة والعتمة المُدْلهمّة…

أبا شفيع.. السلامُ عليكَ.. والسلامُ على الشّام المُفَدّى.. والسلامُ على كلّ الذين يمشون في خُطاك…

العدد 1105 - 01/5/2024