أمريكا الجنوبية.. بين حكم العسكر وصعود اليسار

شهدت دول القارة اللاتينية، منذ حصولها على الاستقلال من الاستعمارين الإسباني والبرتغالي، المئات من الانقلابات العسكرية في مختلف دولها، حيث سيطر جنرلات الجيش على مقاليد السلطة لفترات متفاوتة، الأمر الذي يجعل من الضروري تسليط الضوء على هذه الظاهرة في تاريخ العالم الحديث والمعاصر.

تعود جذور تدخل العسكريين في السياسة وسيطرتهم على الحكم إلى فترة حروب التحرير من الاستعمار، التي خلقت الظرف المناسب لتدخل العسكريين في شئون بلادهم السياسية، فبعد الاستقلال مُنح قادة الجيوش المنتصرة الحق في الحكم، لاسيّما مع وجود حالة من الفراغ السياسي أعقبت الاستقلال، ما أدى إلى تفاقم دور المؤسسة العسكرية، تدريجيًا، واضطلاعها بشؤون البلاد السياسية، فبدلاً من انتقال السلطة إلى مؤسسات وشخصيات مدنية، ظلت القوة السياسية مركَّزة في يد المؤسسة العسكرية، لعقود طويلة.

أما السبب الثاني لهذا التدخل فيعزى إلى البنية الاجتماعية في أمريكا الجنوبية، وانتماءات ضباط الجيش التي تعود إلى العنصر المهيمن في تلك المجتمعات، والذي تكوّن من التجار الأثرياء، وكبار ملاك الأراضي، ورجال الكنيسة. والضباط العسكريين ارتبطوا بهذه القطاعات وعبَّروا عن مصالحها، التي تمثلت في الحفاظ على الوضع القائم، وقمع الطبقات الدنيا. وكان الجيش هو الأداة الناجعة لتنفيذ ذلك، لذا دعمت الطبقات العليا وصول الجيش إلى السلطة، وبقائه فيها، حماية لمصالحها، ما أفرز التحالف بين ركنين من أركان طبقة واحدة: العائلات الثرية الكبرى من ناحية، حيث السلطة الحقيقية الكامنة وراء جهاز الحكم، والقوات المسلحة من ناحية أخرى، وهي الأداة التنفيذية التي استخدمت لقمع الشعب، والحيلولة دون حدوث أي تغيير قد يمس مصلحة الطبقة الثرية.

ثالثاً، اعتبرت واشنطن أمريكا الجنوبية حديقتها الخلفية ومنعت بكل قوتها دخول أفكار لا تتناسب وسياساتها، خصوصاً إبان الحرب الباردة، وكان من مصلحتها دعم استقرار الوضع القائم، على أساس أنه أفضل الطرق لمواجهة محاولات التغيير الاجتماعي والسياسي في هذه المنطقة الحساسة، وهو ما أوجب الدكتاتورية العسكرية التي توافقت سياساتها مع سياسة البيت الأبيض في مواجهة الشيوعية، الأمر الذي رسَّخ صورة الولايات المتحدة عند الشعوب اللاتينية، كصديقة للاستبداد ومؤيدة للديكتاتورية، وهي الدولة التي كثيراً ما ادعت بأنها تحمل مشعل الحرية، لتضيء به لطريق لكل من يريدون تحرير أنفسهم من الظلم السياسي، وبأنها المتحدث الرسمي باسم (العالم الديمقراطي).

ومع مطلع الألفية الجديدة حدث تحول مثير للاهتمام تمثل في صعود الحركات اليسارية إلى سدة الحكم في معظم بلدان أمريكا الجنوبية، الأمر الذي قد يجعل الكثيرين يتساءلون عن العوامل التي أدت إلى هذا التحول، خصوصاً بعد أن اعتبر منظروا الرأسمالية أن الفكر اليساري قد تعرض لهزيمة ساحقة ولن تقوم له قائمة أبداً.

من المثير للسخرية أن سياسة واشنطن كانت العامل الأول لصعود اليسار في أمريكا الجنوبية، ذلك أن مواطني وساسة الدول اللاتينية بدأوا يدركون أن اهتمامات الجار الأكبر في قارتهم باتت تقتصر على ما يهم المصالح الأمريكية وليس المصالح المشتركة، فاهتمامات واشنطن تكاد تتركز في مكافحة المخدرات، وتأمين الممرات المائية الاستراتيجية لسفنها وناقلاتها، ووارداتها من المعادن والثروات الطبيعية، وحماية وتعزيز مصالح الشركات الأمريكية، ومواجهة أي توجهات يسارية تظهر في دول القارة تراها واشنطن معادية لمصالحها. الأمر الذي جعل المواطن في تلك البلاد ينظر إلى اتجاه البيت الأبيض ويصوت في انتخابات بلدانه في الاتجاه الآخر.

أما العامل الثاني فيتمثل في تمرد سكان البلاد الأصليين على التهميش السياسي الذي تعرضوا له منذ الغزو الإسباني-البرتغالي حتى الآن، الأمر الذي أدى إلى بلورة فكر تحرري مناهض للسلطة مركزياً في حالة السكان الأصليين في بوليفيا مماثلاً لتطور فكر الحركة (الزاباتية) في جنوب المكسيك، وكذلك مع حركة السكان الأصليين بجبال الأنديز بالإكوادور، وحركات المواطنين من أصل إفريقي في البرازيل.

ثالث هذه العوامل يعود إلى الإرث اليساري في القارة، وهو قديم وسابق للثورة الكوبية. إلا أن ظروف الحرب الباردة ساهمت في إسقاط التجارب المختلفة في القارة، سواء عبر انقلابات عسكرية داخلية مدعومة أمريكياً مثل الحالة التشيلية عام ،1973 أو عبر تدخل عسكرى أمريكي صريح مثل حالة غرينادا عام ،1985 أو المزاوجة بين تكثيف الضغوط الخارجية مع دعم حركة تمرد داخلية مثل حالة نيكاراجوا في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، أو فشل تلك النماذج في تحقيق ما وعدت به لجماهير شعوبها، خاصة الطبقات الكادحة، في عدد من الحالات.

وكانت النتيجة سقوط أو انهيار هذه النماذج. إلا أن ما كان مقبولاً زمن الحرب الباردة لم يعد مقبولاً بعد انتهائها. وعلى هذه الخلفية يمكن فهم فشل الانقلاب العسكري ضد الرئيس الفنزويلي المنتخب ديمقراطياً (تشافيز) في نيسان 2002 مثلاً، واضطرار الانقلابيين لإعادة الرئيس إلى سدة الرئاسة بعد أن واجهوا معارضة شعبية عارمة، ورفضاً من داخل صفوف الجيش ذاته، وتهديدات بعقوبات من الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأمريكية.

الأنظمة اليسارية الجديدة في أمريكا اللاتينية وصلت إلي الحكم بطريقة ديمقراطية، واستمرت فيه برغبة وتأييد قطاعات واسعة من شعوبها، وبانتخابات تضرب لنا مثلاً جديراً بالاحترام في الشفافية والنزاهة، وأي نظام حُكم في أي مكان، يقوم علي اختيار شعبي حر، وينصاع للإرادة الشعبية ويحترم رغباتها، لا يمكن وصفه تحت أي تقييم أو تنظير بأنه استبدادي أو شمولي كما تحاول أن تصف واشنطن ومعها الدول السائرة في ركبها الحكومات التي لا تقدم لها فروض الطاعة.

العدد 1107 - 22/5/2024