الأقحوان.. مازال يورق في ذاكرتنا

 عام مر على ذلك اليوم المشؤوم، عندما اتصلوا بي من الجريدة وقالوا: لقد فارق صديقك أبو شفيع الحياة إثر نوبة قلبية.

عام مضى وأنا أحتبس مدامعي، وأحاول النسيان. كيف يمكن ذلك ومكانك في جريدة (النور) مازال فارغاً، المكان الذي شغلته بكل ما تملك من إخلاص في العمل ونزاهة في العلاقة مع زملائك؟

أهرب من ذكرياتي معك، فأصطدم بك صديقاً وفياً حنوناً متفانياً، من أين لي أن أنسى علاقتي بك في إطار عملنا المشترك في اتحاد الكتاب العرب، وأنت عضو المكتب التنفيذي فيه، المكان الذي لم يغير من طبيعتك ومن تواضعك ومن استعدادك لتقديم الخدمات حتى للذين لا يستحقونها إيماناً منك بأن من يعمل المعروف لا يعدم جوازيه.

علاقتي معك بدأت في سبعينيات القرن الماضي، يوم كنا في جامعة دمشق، ثم شطت بنا السبل وطوحتنا الانقسامات البغيضة. ما كنت أتوقع يوماً أن طالب الجغرافيا سيصبح كاتباً، قاصاً، روائياً، وسياسياً بارزاً، وسأطالع اسمه في الصحف والمجلات السورية والعربية.

بعد قرابة 35 عاماً التقينا من جديد كل من موقعه، أنت في أوج عطائك ومكانتك الحزبية النقابية، الأدبية، وأنا أهرول باتجاه إحراز مكان يليق بي.. كيف يمكن أن أنسى ما قدمته لي من مساعدات في اتحاد الكتاب وفي جريدة (النور) التي فتْحتَ لي باب العمل فيها على مصراعيه؟

أيها الصديق الوفي باسم عبدو.. اختلفنا كثيراً وتوافقنا كثيراً، لكن الاختلاف بيننا في وجهات النظر لم يؤثر أبداً على متانة عرى الصداقة بيننا، الحدة في المواقف سرعان ما كانت تتحول إلى قوة تعزز علاقتنا وتقوي الألفة بيننا.. تعلمنا معاً بالتجربة الحية كيف نحول الاختلاف والتباين في وجهات النظر إلى رصيد معرفي حواري تفاعلي يطور رأي كل منا- على ما بدر من تشنجات هنا أو هناك حول هذا الرأي أو ذاك، لكن طيبتك ونبلك كانا دائماً ما يساهم في إزالة عوالق التوتر والانفعال من كلينا.

كم أفتقدك اليوم في ذروة تزاحم أدعياء الثقافة الطامحين إلى احتلال الأمكنة التي لا يستحقونها، وكم أشعر بحاجتي إلى صدرك الذي يتسع للشكوى وإلى قدرتك على رؤية خيوط النور في قلب العتمة.

اخرج من عتمة مثواك، واسطع بيننا نور هداية ومحبة، قلباً يفيض تسامحاً وترفعاً، أديباً يعيد رسم الكمات وترصيع الأفكار في إنتاج أدبي سردي وزوايا ساخرة تخز برودة ما آلت إليه أرواحنا وما اعتراها من جليد، وما لبسته عقولنا من بلادة.

ما أحوجنا اليوم إلى الكلمة الصادقة والموقف الشجاع وعدم التلون ومطابقة الأقوال مع الأفعال والترفع عن الصغائر والابتذال، نحن حملة الأقلام لنكون رواداً لا يكذبون أهلهم ولا يضلونهم سواء السبيل.

أنا لست وحيداً بعد رحيلك.. أصاحب آلامي وأحلامي، أصدقائي كثر، وعذّالي ليسوا أقلية، نعاقر الكلمات، نشيد عمارة الأفكار، نتعثر، نكبو، ثم ننهض لمتابعة الطريق الذي تعاهدنا يوماً على السير به إلى نهايته، مهما عصفت رياح الظلامية والتخلف.

نم قرير العين هانيها أيها الصديق، ولا تقلق، فكل فكرة سطرتها، وكل كلمة قلتها، وكل بذرة زرعتها، ستعطي سنابل وفيرة واعدة بحصاد عميم، مادامت هذه الأرض الطيبة تلد أمثالك حتى ولو في أتون النار التي ستطهر أنفسنا مما حل بها من تشوهات، وسيبقى أريج أقحوانك فواحاً، وذاكرتنا تورق كلما اشتدت المحن وتعاظمت المصائب، فأخمصك الخشبي كفيل بتبديد الظلام وتسريع ظهور خيوط الشمس تذكرنا بإطلالة وجهك الباسم.. يا أبا الشفيع.

العدد 1105 - 01/5/2024