حوار نادر

كشفت مصادر أدبية في الأرجنتين أنها عثرت على نص أدبي فريد في عالم الشعر، هو حوار بين الشاعرين الكبيرين، الشيلي بابلو نيرودا، والإسباني فيدريكو جارثيا لوركا، دار بينهما بمناسبة احتفالية أقاماها في الأرجنتين عام 1933م على شرف (أبي الشعر الإسباني الحديث) روبن داريو، بعد سبعة عشر عاماً على وفاته.
وهو نص أدبي مهم، (يستعير فيه الشاعران إحدى مفردات مصارعة الثيران، وينتقلان بها إلى عالم الأدب، ليواجها ثوراً واحداً، هو روبن داريو. لذلك فبمجرد العثور عليه نُشر في الأرجنتين).
ويبقى هذا الحوار الأدبي، بداية جميلة لتحليل علاقة الشعراء الثلاثة الكبار بعضهم ببعض. خاصة أن كثيرين كانوا يجهلون وجود علاقة مباشرة بين لوركا ونيرودا، رغم أن كليهما تحدث عن الآخر في حوارات متفرقة. وهنا نص الحوار الذي يلاحظ فيه أن الشاعرين ارتديا عباءة شاعرية واحدة ليقفا في مواجهة داريو… أو بعبارة أدق ليكرماه.
نيرودا: سيداتي …
لوركا: وسادتي. في لغة مصارعة الثيران هناك عبارة تقول (المصارعة معاً)، وتعني قيام مصارعين اثنين بالالتحاف معاً بعباءة المصارعة لمواجهة الثور.
نيرودا:  لقد لففنا، أنا وفيدريكو، جسدينا بسلك كهربائي، وسنقوم بقرض الشعر ومواجهة هذا الاستقبال الباهر.
لوركا: من المعتاد في مثل هذه اللقاءات، أن يلجأ الشعراء إلى أفضل ما في قرائحهم الشعرية الحية، ويحيّون، بصوتهم، زملاءهم وأصدقاءهم.
نيرودا: غير أننا سوف نضع بين أيديكم ميتاً، وهو أرمل، نديم معتم في ظلمات موت أكبر من أي موت آخر، أرمل حياة، بعد أن كان زوجاً ليس كمثله زوج، سوف نختبئ تحت ظلّه المتّقد، وسنقوم بترديد ذكر اسمه حتى يتبدى لنا سلطانه من النسيان.
لوركا: وبعد أن نرسل بعناقنا الحنون، كأننا طائر البطريق، إلى أمادو فيلار Amado Villar، ذلك الشاعر المرهف، سوف نتلو اسماً عظيماً على مفرش المائدة، واثقين من أن الكؤوس ستتحطم، وأن الشوكات سوف تقفز بحثاً عن العين التي تتشوق إليها، وأن البحر بموجه سوف يلطخ المفارش. سوف نتلو اسم شاعر أمريكا وإسبانيا: روبين …
نيرودا: داريو، فالأمر سيداتي
لوركا: وسادتي ….
نيرودا: أين هو ميدان روبين داريو في بوينوس آيرس؟
لوركا: أين هو تمثال روبين داريو؟
نيرودا: كان يعشق الحدائق، فأين حديقة روبين داريو؟
لوركا: أين محل الزهور الذي يحمل اسم روبين داريو؟
نيرودا: أين هي شجرة التفاح وتفاحات روبين داريو؟
لوركا: أين هي يد روبين داريو المقطوعة؟
نيرودا: أين هو الزيت والراتينج وبجعة روبين داريو؟
لوركا: يرقد روبين داريو في (موطنه نيكاراغوا) تحت تمثال أسد هزيل من الرخام الرخيص، وهو أسد على شاكلة الأسود التي يضعها الأغنياء عند مداخل منازلهم.
نيرودا: أسد اشتروه له من محل صانع الأسود، أسد لا نجم له لمن كان ينثر النجوم.
لوركا: أعطى لهمهمة الغابة صفة، وتمكن مثل فراي لويس دي جرانادا، ملك ناصية اللغة من جعل الليمون ورجل الظبي والرخويات التي امتلأت رعباً، تبلغ كلها مصاف النجوم. جعلنا نركب البحر بالبوارج، ووضع لنا ظلالاً على إنسان عيوننا وعبّد مساراً عظيماً من مشروب الجن، وسط الأمسية الرمادية التي لم تر السماء مثلها، وحياً بندية ريح الجنوب المعتمة وهو عريان الصدر كشاعر رومانسي. ووضع يده على تاج عمود كورنثي بشكٍّ ساخر وحزين، هو جماع كل العصور.
نيرودا: يستحق اسمه ذو اللون الأحمر أن نتذكره في توجهاته الرئيسية، والألم الذي يعتصر قلبه وحيرته المتوهجة، وهبوطه إلى مستشفيات الجحيم، وصعوده إلى حصون الشهرة، وسماته كشاعر عظيم ابتداء من ظهوره وإلى الأبد.
لوركا: وكشاعر إسباني علّم في إسبانيا رعيل الأساتذة الأول، وعلم الأطفال بروح تملؤها العالمية الكونية والكرم، وهما السمتان اللتان يعز وجودهما بين الشعراء المعاصرين. لقد علّم بايى أنكلان، خوان رامون، الأخوين ماتشادو، وكان صوته ماءً وملحاً، في أخدود محراب اللغة، وابتداء من رودريجو كازو Rodryigo caso) ) حتى لوس أرخنسولاس Argensoles  أو خوان أرجيخو، لم تحظ اللغة الإسبانية بهذا المهرجان المبهج من المفردات وتناغم الأصوات والأضواء والأشكال إلا على يد روبين داريو.
طاف داريو بأرض إسبانيا على أنها أرضه، ابتداء من المشهد العام الذي رسمه بيلاثكيث وانتهاء بنيران جويا، ومن الكدر الذي عليه كبيدو إلى اللون التفاحي الذي عليه الPayesas  في ميورقة.
نيرودا: مدّ أتى به إلى شيلي، إنه بحر الشمال الدافئ، وتركه البحر هناك على شاطئ وعر وصخري، وكان المحيط يضربه بزبد أمواجه وأجراسه، وتملؤه الريح بالبارايو السوداء، بملح رنان لنحت تمثال له هذه الليلة من الهواء. وهو تمثال يخترقه الدخان والصوت والظروف والحياة مثل شعريته العظيمة التي تتخللها الأحلام والأصوات.
لوركا: غير أنني أريد أن أضع فوق هذا التمثال المنحوت من الهواء، دمه كباقة شعاب مرجانية تتمايل مع المدّ والجزر، وأعصابه مثل حزمة ضوئية ورأسه قنطوري. إذ نرى الجليد الذي صوّره العظيم جونجورا، وقد أصبح طيران الطائر الطنان وعيناه غائمتان توارتا خلف ملايين الدموع، كذلك عيوبه. وإذا ما شهدنا الرفوف وقد أتت عليها الحشائش، فأين تنساب أنغام الفلوت، وزجاجات الكونياك علامة على ثمله وعذوبة تعكر مزاجه وشعره ذو الأطناب الواضح الذي يثلج صدور العوام. وظلت ماهية أشعاره العظيمة والثرية مرفوعة الهامة تنأى بنفسها عن القوالب والمدارس.
نيرودا: الإسباني فيدريكو جارثيا لوركا، وأنا الشيلي، ندين بليلة الزمالة هذه لذلك الظل الوارف الذي غنى بصوت تجاوز أصواتنا، وحيا بنيرانه المذهلة الأرض الأرجنتينية التي نحن عليها.
لوركا: بابلو نيرودا الشيلي، وأنا الإسباني نلتقي في معين اللغة وفي عشق هذا الشاعر العظيم عين نيكاراجوا والأرجنتيني والشيلي والإسباني روبين داريو.
نيرودا ولوركا: نرفع أنخابنا تكريماً له وتمجيداً.

العدد 1104 - 24/4/2024