الوهم والحقيقة

قلت لصديقي الذي يحب أكل البيض البلدي، منذ عقدين: عندما تشتري (صفط) البيض ب 300 ليرة، ستعود إلى القرية في هجرة معاكسة، وستبني قنَّاً يتسع لعشرين دجاجة بياضة..  قال: ابتعدَ خيالك كثيراً…  وأنت لا تفكر إلا بمراقبة الأسعار، وبمعدتي التي تستقبل جميع أنواع الطعام، وتعرف أن البيض هو إفطاري المفضّل  ! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تجعل أفكارك تسير في نفق الأسعار، وتجعل أحلامك تتقافز بين البسطات، ولا تتركها طليقة حُرَّة وتحررها من استبدادك؟

إن الأوهام تعشش في دواخلك، وأنت لا تعيش زمانك وحياتك، دائماً تفتش عن الأمور السهلة، كمن يبني بيته على الرمال، ولا يحسب حساباً للعواصف التي تهب على المنطقة. أما أنا فمن المستحيل أن أترك المدينة التي أمضيتُ فيها نصف قرن.. ومن العجائب والغرائب ما تتنبأ به عن المستقبل. وهذه ليست المرة الوحيدة التي أسمع حديثاً متشائماً منك.

الفرق كبير جداً بين الوهم والحقيقة يا صديقي العزيز، كالشخص الذي يحب من طرف واحد ويعدّ حبّه حقيقة، بينما الحقيقة مخالفة لهذا التخيّل، لأن الطرف الآخر(الحبيب المتخيل) لا يملك مثل هذا الشعور!

الوهم يا صديقي الغيور كالسراب، الذي يخدع كل من يتصور أنه يرى أمواجاً تلطم الشواطئ. وعندما يقطع مسافة طويلة ويقترب أكثر فأكثر، يتلاشى حلمه ولا يجد أي أثر لماء أو بحر أو شواطئ.. إنها اليابسة الجرداء!

أتصوَّر أنك نسيت ما تعلّمتَهُ في كتاب الفلسفة للثالث الثانوي- الفرع الأدبي، بأن الوهم هو كل خطأ في الإدراك الحسي، أو في الحكم أو في المحاكمة المنطقية.

وهناك أوهام طبيعية، وأوهام تنتج عن تصورات مكتسبة.. والوهم حسب (نيتشه) هو كل ما أنتجه الإنسان من معارف، لأنها ناتجة عن رغبة لا شعورية في البقاء. ومصدر الأوهام كما يقول: الفكر أولاً، إذ يلجأ الشخص إلى الكذب والتضليل وإخفاء الحقيقة، التي يتوهم أنها خطيرة على وجوده، فيخفيها تحت غلاف المنطق. واللغة ثانياً، لأنها أداة التفكير. بينما الوهم عند أفلاطون، هو الأسطورة. ومصادره ثلاثة (الحواس، الفكر ، النفس).

اعترف صديقي البارحة بصواب أقوالي ونصائحي، وهو يحمل (صفط) البيض، حاول أن يتجنب التذكير بالأحاديث التاريخية القديمة..

اعترف أن ما يجري من حقائق في هذا الزمن الموارب، أقوى بألف مرة من الأوهام التي ظلت راسخة سنوات طويلة في ذهنه. وأن راتبه التقاعدي لم يعد يكفي لشراء الدخان الوطني ومواد التنظيفات ودفع الفواتير للكهرباء والماء والأرضي والجوال والنت.. وغيرها.

قرر صديقي أن يعود إلى القرية، واعترف أن ثلاثة أرباع عمره كان وهماً، وما بقي من سنوات العمر في قريته أصبح حقيقة، كشجرة خضراء في غابة من الأوهام.

العدد 1102 - 03/4/2024