بهلوانات… لا أكثر

دائماً نحاول إيجاد مبررات لمن نحب حين يخطئون، وخاصّة حين تكون أخطاؤهم صغيرة، أو غير مؤثرة بما يكفي لنحاسبهم. ولأننا نحبّ أصدقاءنا نعمد في أغلب الأحيان إلى تجاهل هفواتهم، فننساها قبل أن تتراكم، ولا نترك لها حيّزاً من الشك لتتراكم من خلاله. بهذا المعنى نكون مسامحين دون منّة، فالصداقة الحقيقية تتطلب ذلك، والعلاقات الإنسانية الراقية تتطلب ذلك أيضاً.
هذا السماح وهذا التناسي ينحصر في الأخطاء الصغيرة، أما حين تكبر الأخطاء، وتتكاثر على نحو متعمّد. فلا يمكننا حينذاك إلاّ أن نعيد حساباتنا من جديد، وعلى مهل. محبّتنا، وحرصنا الشديد على عدم خسرانهم تجبرنا على ذلك تلك المحبّة تدفعنا أيضاً إلى عتابهم، وهنا تتكاثر الرسائل المشفّرة، والبرقيات اللماحة، وننتظر بفارغ الصبر عودتهم إلينا دون أخطاء تجعلنا ننفر منهم شيئاً فشيئاً قبل وقوع القطيعة التي نعدّها آخر العلاج.
هذه التوترات حصلت كثيراً في الآونة الأخيرة، من خلال تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر حول ما اتّفق على تسميته خطأ بالربيع العربي، وخاصّة في ما يتعلق بالأزمة السورية. ولأننا نزعم أننا مثقفون، وهذا أيضاً موضوع إشكالي، فالمثقف في النهاية يسعى إلى خير بلده، وهذه غاية بحدّ ذاتها. فلا تمرّ جلسة من مجالس المثقفين إلاّ وتكون الأزمة السوريّة مركز الحوار والجدل. وإن كان ذلك دليل عافية ثقافية، فإنه أفرز ما لم نكن نتوقّعه يوماً. فحين نفتقد بعض الأصدقاء لفترات طويلة، ونسأل عنهم، نتقفى أخبارهم لنفاجأ بهم وقد انتقلوا مئة وثمانين درجة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين (دون أن تكتمل دائرة الدوران، فيصير أقصى اليمين يساراً، والعكس صحيح).
من كان يتبنى أفكار كارل ماركس، وزكي الأرسوزي، وأنطون سعادة، نراه فجأة وقد امتلأ بالفكر الوهابي، وقد يرخي لحيته ويتجلبب بالأبيض الكاذب. وهنا نعود للتساؤل: أين كانت تلك الأفكار متخفّية؟ وتلك النوايا الخبيثة كيف غابت عنا؟ أسئلة تثير الحزن على أحوالنا، وعلى ما آلت إليه الأمور في بلد زعمنا أننا حريصون عليه، وظهرت الحقائق لتبيّن كم كنا منافقين! واللازمة التي لم تكن تفارقنا يوماً (الوطن خطّ أحمر)، أصبحت مثار تندّر وتفكّه لا أكثر، هكذا تغدو الأوطان في مهبّ المجهول، ويغدو المثقفون صيارفة، وسماسرة، ونخاسين.
هنا لا يمكن لعاقل في هذا العالم أن يسامح، أو يتسامح، يصالح، أو يتصالح. فالأمر قد تجاوز كل الخطوط الحمر التي رسمناها في جلسات ملؤها الصدق والوطنية. نتذكّر تلك الجلسات، ونتساءل محاولين إيجاد ذريعة ما للوهابيين الجدد، لا لنسامحهم، وإنما نوع من الفضول لمعرفة أسباب هذا الانفصام في شخصيات بعض المثقفين.
وإذا كانوا ينتظرون الآن سقوط النظام، فالمهم هو الوطن. وإذا كانوا ينتظرون ذلك ولن يسقط، وهذا أمر مرجّح. ما مصير أولئك الأصدقاء؟ هل يعودون إلى يساريتهم، أم يبقون في أقصى اليمين؟ سؤال لم يعد يهمنا بشيء، فالقرار الضمني قد اتّخذ: لن نُخدَع بأحد بعد الآن، وسيبقى الوطن بالنسبة لنا الخط الأحمر الوحيد.
 

العدد 1104 - 24/4/2024