يا…. فيروز

أيتها الإلهة المتفائلة، هل حقّاً سنرجع؟ وأيّ عندليب أخبرك بهذا؟ نعلم أن العصافير لا تكذب، لكنه فعلها هذه المرّة، أو أنه أخطأ التقدير، فالعصافير قد تخطئ يا سيدتي حين تتجاوز فطنتها، وتحسبها كالبشر.

قد يطول الزمن الذي نتحدّث فيه عن العودة، وقد تكثر العنادل التي تعدك يا فيروز، وأنت دائماً تصدّقينها، لأنكم تتقاسمون الأحلام والأجنحة والغناء.

صرنا نحلم بالبقاء، لا بالعودة. فهل من عندليب يخبرنا بأن بقاءنا ممكن؟ وهل يقنعنا بوعده؟ أما زالت القدس مدينة للسلام؟ أما زالت الوجوه في المغارة تبكي، أم أنها استبدلت الضحك بالبكاء؟ الضحك الساخر طبعاً.

إنها السخرية، والمرارة. تتملّكنا دهشة غريبة حين ننظر إلى الوراء، أيام كانت القدس لنا، والبيت لنا. معذرة أيتها المتفائلة، أصبحنا نشكّ بأصوات الأجراس، وبابتهالات المآذن.

الدم ينتقل من مدينة إلى أخرى، ومن شارع إلى شارع، في هذا الشرق العجيب! أصبحت المدائن بلا أزهار، والحدائق بلا أشجار، والأراجيح فارغة، إلاّ من الهواء، يؤرجحها بحزن.

فيروز… أيتها الإلهة الفينيقيّة، يا من عاش غناؤك فينا عشرات السنين، صرنا نشكّ، حتى بالفرح والشدو والزقزقة، بالمواويل والميجنا، الأووووف عادت إلى معناها الحقيقي، الوجع يا فيروز… أجل، الوجع.

قولي لأصدقائك العصافير أن يكفّوا عن الغناء، فما عاد يستهوينا. استبدلنا به يا سيّدتي أصواتاً أقوى، وأكثر رحمة. كأنّ إسرافيل ينفخ، وكأن عزرائيل يسيح في بلادنا، قابضاً ما طاب له من أزهار تحتضر، ويمام يرتجف شاخباً هديله.

أتعبتنا الوعورة يا سيّدتي، وضاقت بنا الدنيا، فهل من آلهة رحيمة تأخذنا إليها بهدوء؟ نشتهي الموت الهادئ، الموت الذي نسامح فيه أحبّاءنا، وأصدقاءنا، وأهلنا، قبل أن نرحل، وقبل أن نطلب منهم المغفرة. الموت الذي ننزل فيه إلى قبورنا سالمين، إلاّ من الروح.

بأيّة وجوه سنقابل الله؟ ومن أين نجمعها؟ تناثر كل شيء يا فيروز، كل شيء. الأرصفة وحوش، والشوارع غيلان، ومداخل البنايات أشداق عفاريت. فمن أين نجمع وجوهنا وقد توهّج عليها الأسفلت والغبار؟ من أين نصعد إلى الله وقد أُغلقت أبواب السماء بآلاف القذائف؟ من أين يا فيروز؟ من أين؟

اسألي العندليب يخبرك ما حلّ بقمح البيادر، إن كان قادراً لا يزال، اسأليه عن عبق الربيع يخبرك إن لم تهرم ذاكرته بعد. اسأليه يا فيروز… اسأليه، يخبرك إن كان حيّاً بعد كلّ هذا الربيع!

العدد 1105 - 01/5/2024