الاكتئاب.. وصور أخرى

قبل الأحداث في سورية لم أكن أكترث كثيراً، بما يردده صديقي صاحب الأحلام الجميلة على مسمعي ويكرر قوله (إنه مكتئب وفقدَ أحلام السعادة)..كنت أجيبه بابتسامة.. ربما هذه الابتسامة الصادقة تخفف عنك شيئاً، وتفتح نافذة للأمل. وقد حققتُ نجاحاً وبدأت ثقته بي تظهر بوضوح على سُمْرة وجهه، ويبادلني بابتسامة شبيهة تبدو لي فراشة من الفرح تحمل له رسالة محمَّلة بالأمل والتفاؤل ولو لشهور قادمة، وكحد أدنى أن نجتاز عتبة الصيف الحار الملتهب بالقذائف والمعارك والتهديدات الأمريكية والأوربية المتناغمة مع تدفق الأسلحة والأموال.. و و.. ونفتح بوابة الشتاء الذي ربما يبرّد الرؤوس الحامية.

ولم تكن هذه الوصفة شافية، فالاكتئاب بدأ يتفشى مثل بقعة الزيت على سطح الماء، وازداد عدد المنضمين إلى هذه الجماعة. وفكّر بعضهم أن يشكل(نقابة الكآبة). فالقوانين الجديدة تسمح بتشكيل الجمعيات والتنظيمات السياسية وغيرها، بشرط الالتزام بالقوانين.

الغريب في الأمر عندما أخرج من المنزل مساء، رغبة مني في نسيان ما يجري في ساحات المعارك ومطاردة المسلحين من جهة، وإعطاء إجازة ساعية للشاشة الصغيرة كي تستريح من جهة ثانية، وقراءة ما يجري على وجوه الناس من تغيرات وتبدلات من الناحيتين (الاكتئابية والانشراحية) من جهة ثالثة.

عدتُ من مشواري القصير.. أحمل في ذاكرتي صوراً عدة..

– الصورة الأولى أحاديث الناس وثرثراتهم من الذكور والإناث والكبار والصغار، فهم يتناقلون أخبار درعا وحلب وحمص.. وأسماء شهداء لأقرباء وأنسباء، وتخليص سورية من المسلحين والتكفيريين والوهابيين القادمين من بلدان شتى.

– الصورة الثانية تدخل عنوة إلى مخيّلتي دون أن تقرع الجرس. أحاول طردها ونتف رياشها وإلقاءها في حاوية القمامة، لكنها تتشبث في جدران ذاكرتي، وترغمني قسراً على تثبيت ترددها(أفقياً وشاقولياً). وتظهر على شاشة الأحداث رؤوس حامية مختلفة الأحجام والأشكال والأوزان واللحى الكثيفة(الحمراء والسوداء والشقراء).

– الصورة الثالثة، الناس بكثرة في يسار الشارع ويمينه يتلفتون بحيرة، كأنهم يتفقدون أشياء ثمينة سلبت منهم.. وجوههم تبدل ألوانها في ثوانٍ، فيرتفع منسوب التفاؤل حين يظهر عليها اللون الأحمر، وينخفض الزئبق في ميزان قياس الاكتئاب والسعادة حين يظهر اللون الأصفر.

– الصورة الرابعة، مرَّ صديقي المكتئب بجانبي ولم يسلّم عليَّ.. تابعته وهو يحرّك يديه في الجهات الأربع وصوته يرتفع وينخفض مع أنفاسه، مما دعا المتطفلين للتجمهر حوله يحاول بعضهم تهدئته وتسكين أوجاعه، لكنه دفعهم ودخل صيدلية قريبة، ثم خرج يحمل كيساً مملوءاً بالأدوية!

– الصورة الخامسة، كانت قراءتي لحركات الناس والاستماع إلى أحاديثهم غير الدقيقة ولا الصحيحة تماماً. لذلك نفضت من رأسي هذا(الإلهام الأسود)، ومزقت هذا الغشاء الذي غطى عينيَّ وشوّش ذاكرتي وعكّر مزاجي.. سمعتُ أثناء عودتي إلى المنزل صوت غناء وأهازيج، وكانت الأنوار المزدهية بالألوان تملأ الشارع.

– الصورة السادسة، عندما ظهر وجهي على سطح المرآة، ورأيتُ تضاريسه الصفراء.. تأكدت عندئذ من عدم صحة تصوراتي، واكتشفت كذب ما رأته عيناي على فضائيات الأعداء، فغسلت وجهي بالماء البارد لأمسح الكآبة عنه، وكنست من ذاكرتي بقايا صور ملطخة بالسواد، ومزَّقت تأملاتي إرباً إرباً وشتّت أحلامي البيضاء!

وثمة صور أخرى أمرّ، من كمّ للأفواه وتهميش واستئثار.

العدد 1104 - 24/4/2024