يوم يقيم الشاعر في السفر والترحال

للحداثة الشّعرية في الثّقافة العربية رموزُها وأعلامُها. ولها أيضاً تاريخها ومداها. ولشاعر الحرية والحياة التونسي أبو القاسم الشّابي (1909 – 1934م) داخل هذا التاريخ وذلك المدى منزلة ومكانة وحكاية.. حكاية شاعر أقام خلال فترة حياته القصيرة في السفر والتّرحال، وألف الرّحيل وفتنه المجهول. فطفولته كانت مشظّاة بين الأمكنة والأقاليم والمناخات.

في البداية، كان السّفر في المكان. لكنّ السّفر لم يكن اختياراً أتاهُ الشّاعر بل كان قدراً ومصيراً. وها نحن أولاء نسمعه يقول: (مناخات.. وأقاليم…. / هِجْرات تَتْلوها هِجْرات… / وشاعر يُسلّمُهُ الرّحيل إلى الرّحيل).

هكذا عاش الشّابي، هِجْراتٌ تتلوها هِجْرات… وإقامة يتلوها رحيلٌ من الأليف إلى المجهول، ورحيلٌ آخر نحو ما به يصبح الشّعر فعلاً تأسيسياً.

وفي أول يوم من يومياته، بتاريخ (يوم الأربعاء الأول من كانون الثاني/يناير 1930)، يقول الشّاعر الذي لم يسعفه القدّر في تجاوز الثلاثين من العمر، في نبرة طافحة بالشّجن والتأسّي على الذّات: (هاهم أصدقاء طفولتي الذّين عرفتهم في بلاد كثيرة… هاهم يتراكضون بين المروج الخضراء، ويجمعون باقات الشّقيق والأقحوان. ثم يتسلقون الجبال متتبّعين أعشاش الطيور الصيفيّة، ثم هاهم جالسون على ضفاف الأنهار الجميلة الهادرة، يبنون بين الرّمال بيوتاً مسقوفة بأعشاب الحقول… ثم هاهي تنظر إليّ بعينيها الجميلتين الحالمتين بأحلام الملائكة… ثمّ ها أنا أنظر فلا أجد شيئاً… لقد احتجبوا عنّي حتّى الأبد، وبقيت وحدي أنا في وحدتي وانفرادي).

ومن تغريبة الطّفل وهجراته إلى تغريبة شاعر مؤسّس افتتح مع أبناء جيله من التّحديثيّين العرب مسالكَ ودروباً لا عهد للشعر العربيّ بمثلها. ومن يرصد تفاصيل حياة صاحب (الخيال الشّعري عند العرب)، يدرك يقيناً أن الرجل استبدل بالهجرة في أقاليم المكان التّرحال في أقاليم اللّغة والكلمات.

لكنّ الكتابة لديه لم تكن مجرّد صناعة ونظم. لم تكن تسلية وتحلية للكلام، تُجاري العادة وتكرّسها.. بل كانت حدث انشقاق وفعل وجود. انشقاقٌ جاء في شكل تغيير طال مفهوم الشّعر ووظيفته وطرائق إنجازه.. وكتابةٌ مأخوذة بالأقاصي، مفتونة بالتّخوم. معلنة عن نفسها في شكل سفر وترحال نحو المخالف والمغاير والجديد.

ولقد أقام صاحب البيت الشهير:

إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة

 فلا بدّ أن يستجيبَ القدرْ

مع كلماته علاقة تحْنَانٍ مَحضٍ ووَجْدٍ عارمٍ. وهو ما جعله يمتنع عن تحميلها عِبءَ الزّخرفة وثِقلَ التّحلية. حتى ليكاد الكلام يُعْرَى من الشّعر. فترد العبارة بسيطة سهلة مقتصدة. ويوهم الشّعر بأنّه لا يجاري العاديَّ من الأقاويل فحسب، بل يتلاشى فيها. فيما تظلّ طرائق تشكّله، وكيفيات تعالق ملفوظاته، وتوليده لصوره، وابتناؤه لرموزه، تشير صراحة إلى أنّه شعرٌ مأخوذ بالأقاصي، مفتون بالتّخوم.

وفي كثير من موضوعات شاعرنا محاكاة للواقع وموازاته.. وفيها يَستبدلُ بهذا الواقع عالماً مفارقاً غير مرئي يبتنيه في الكلمات وبالكلمات.. عالماً تمرحُ فيه الآلهة والإنسان: بنات النور / بنات الصبّاح / عرائس المروج / عرائس الشّعر.

عالمٌ تجتاحه الأشباح هائمة تتهاوى من حولها الرجُمُ / بنات الظّلام / جنّيات الظّلام.

وفي ديوانه الشهير (أغاني الحياة)، نجد الشّابي يرسم للشّاعر (أي لنفسه)، صورة في منتهى النورانيّة والبهاء والشفافيّة، إنّ الشّاعر راءٍ ورائدٌ. إنّه يقف في مقدّمة بني قومه، ويقيم هناك، على الذّرا يقيم وفي الأعالي: (كالنسر فوق القمّة الشّمّاء).

هكذا يصبح الشّعر تمجيداً للحياة وإعلاء للحياة. وتأتي الكتابة لتبتني نبوءة العصر: دعوة الإنسان إلى الحياة كي تغذّي فيه (إرادة الحياة)، لذلك يقول الشّاعر مخاطباً شعبه:

ليت لي قوّة الأعاصير إن ضجْ  

جتْ فأدعوك إلى الحياة بنبس

والحياة التي يعنيها إنما هي الإقامة على الأرض على نحو شعري، بموجبه، يحيا الإنسان (حياة شعرية هي صورة من أهل الخلود)، كما يعتبر الشّابي نفسه. إنها إقامة / حال كان الإنسان في بدء مقامه تحت الشمس التي يحياها. لذلك كان، في تلك الأزمان التي أمعنت في الرحيل، يحاور عالمه ويتوحّد به صميمياً.   

واليوم في ذكرى رحيله الثامنة والسبعين ليس لنا، ونحن نحتفي به شاعراً حداثياً، إلا أن نسجل ههنا إعلانه – في يومياته – مخاطباً نفسه في نبرة طافحة بالتّحنان على الذات: أنا شاعر. وللشّاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلاً أو كثيراً مذاهب الناس فيها… أنا شاعر. والشّاعر عبد نفسه، وعبد ما توحي إليه الحياة… أنا شاعر. والشّاعر يجب أن يكون حراً كالطّائر في الغاب والزّهرة في الحقل والموجة والبحار….

وفي رسالة وجهها الشّاعر التونسي الصديق محمد الصغير أولاد أحمد ل(أبي القاسم الشّابي) في شباط/فبراير ،2009 يقول فيها: (هنا أنت طير. وليست سماؤك تحت الحراسة مثل السماء. ولا الأرض ترضى بأن لا نعيش عليها مقابل شعر يحب الحياة.. بلا جسد وبلا غاية وبلا أجنحة. لذلك تبدو خسائرنا مربحة. وأحزاننا مفرحة).

العدد 1105 - 01/5/2024