ثقافة التعصب والإقصاء

إن ثقافة التعصب والإقصاء قد فشلت تاريخياً، وهي شكل مغاير لثقافة الحوار، ولم يعد لها مكان في زمن المتغيرات، ولكن هذا الموروث لا يزال يكشر عن أنيابه بين حين وآخر، ويعبر عن نزعة ذاتية أحادية لم تعد تلقى صدى في الوسط الاجتماعي والثقافي والسياسي غير التقليدي، وأصبحت ثقافة مهزومة. ولا يمكن للعقلية الإقصائية بناء مجتمع متعدد والتوافق مع مجتمع المواطنة، حيث يأخذ كل مواطن حقوقه دون النظر إلى لونه وجنسه وقوميته ودينه ومذهبه. وهذا ما عبّرت عنه الدساتير في العالم.

العقلية الإقصائية هي عقلية أحادية، تعبر عن ثقافة تدعي التفوق والقوة، تحت خيمة التعصب القومي والانتماء إلى القومية الأكبر، التي تهيمن تاريخياً على الأقليات القومية المحرومة من حقوقها الثقافية والاجتماعية.

استمعت منذ أيام ل (باحث) ارتفع صوته واحمّر وجهه، وهو يطالب (بتذويب الأقليات القومية في المنطقة العربية). وقلت له: ألا يحق للأمازيغ أن يتعلموا في مدارس خاصة بهم ويتكلموا لغتهم؟ ومثلهم جميع الأقليات في هذا الوطن الكبير من (كرد وشركس وأرمن وغيرهم).

إن عملية التذويب تتناقض مع مبدأ وحدة النسيج الاجتماعي السوري التاريخي الحضاري المكون منذ آلاف السنين. وتعبر هذه العملية عن التعصب الأعمى والإقصاء المرفوض(اجتماعياً وسياسياً)، خاصة بعد ما جرى ويجري منذ  عامين في المنطقة العربية، من هبوب رياح الفكر السلفي- التكفيري الوهابي، وحرف الحراك السياسي الجماهيري عن هدفه الرئيس. وهي أيضاً ظاهرة خطيرة تقف في مواجهة ومناهضة للتعددية، سواء الدينية أو المذهبية أو العرقية أو الثقافية، ورافضة لمبدأ الحوار الذي يشكل القاعدة الثابتة لنهوض المجتمع وتطوره ولبنائه على أسس الديمقراطية، والقوانين المعاصرة التقدمية المساندة لها.

الإقصاء – كما يدَّعي أصحابه – ضرورة سياسية للحفاظ على الأحادية والتفردية. ويدرك هؤلاء جيداً أنهم يمارسون الاستبداد والظلم وتهميش الآخر.

وتنعكس نتائج سياسة الإقصاء سلباً على المجتمع، فتبرز تيارات ترفض كل ما هو تقدمي، تحمل الموروث التاريخي المؤسس على الأحادية، وتحديد مصير المجتمعات والأوطان ومستقبلهما، والتحكّم في سلوك الناس وحياتهم ومستقبلهم حسب شروطهم وقوانينهم وتوجهاتهم.

لا تتحقق الديمقراطية والثقافة التعددية نظرياً، بل تتحقق بالممارسة العملية وتطبيق نصوص الدستور ومراقبة تنفيذ القوانين، وإجراء الفرز بين ما هو إيجابي وما هو سلبي، انطلاقاً من مبدأ المحاسبة دون تمييز.

لا تتحقق الديمقراطية إلاَّ بعد التحرر من هيمنة الأقلية، وهذا يعزز  العيش المشترك ويحقق الوحدة الوطنية. ويحصِّن الوطن ويمتّن وحدته ويقوّيها، دون التخلي طبعاً عن خصوصية الأقليات، في ظل كيان سياسي تعددي، وحياة اجتماعية موحدة النسيج وكيان جغرافي يجتمع تحت سقفه جميع أبناء الوطن، من مختلف مكوناته وأطيافه.

ويمكن التذكير بقول غاندي، الذي لا يزال أحد الروافع الهامة وركائز السلام الاجتماعي:(لا أريد لداري أن تحيط بها الأسوار من كل جوانبها، وأن تسد نوافذها، أريد أن تهب ثقافة البلاد كلها على داري بحرية تامة، لكنني أرفض أن تقتلعني إحداها من الأرض).

إن المواطنة السليمة دون تمييز بين هذا المواطن وذاك، ورفض الإقصاء واحترام الرأي الآخر، ترتكز على:

0 احترام الدستور وتطبيق القوانين وإلغاء الوساطات والمحسوبيات.

0 تقليص الفجوة المزمنة بين المواطنين والسلطات.

0 إعطاء الأقليات القومية الحقوق الثقافية والاجتماعية ضمن الوطن الواحد، ورفض إحداث أي خلل في الوحدة الجغرافية، وأية دعوة انقسامية.

العدد 1104 - 24/4/2024