القمم عالية بذاتها… لا بالمقيمين فوقها

لا تأتي معارف البشر على شكل وحي وإلهام، مثلما لا ينبت القمح إذا بقي مخزّناً داخل الأكياس، والمستودعات، بل لا بد من زرعه داخل أرض محروثة جيداً، ومروية. كذلك هي القوة التي تتمتع بها كل عضلة من عضلات جسم الإنسان، إذ إنها لكي تصبح قوية، وفاعلة، لا بد أن تتدرّب وتتعب  وتُجهد نفسها دائماً حتى تنمو وتكبر وتحافظ على قوتها.

إن الوحي والإلهام والأفكار لا تزور إلا المنازل المسكونة بأجسادٍ أرواحُها قادرة على تحويل الحلم إلى حقيقة، والفكرة إلى كلمات مبدعة، والبرق إلى نار تحتفظ بها أصابع قادرة على تحويلها إلى ضوء ونور. فمثلما لا يصيب الثلج والمطر والزلازل والبراكين كل الأماكن، كذلك الوحي والإلهام والإبداع الحقيقي لا يسقط فوق جميع الرؤوس، وإلا صار كل الناس عباقرة!

وليس كل من غطَّى الشيب رأسه انقلب حكيماً أو فيلسوفاً، فأُخذ برأيه وسُمع كلامه، وليس كل من كان شاباً فتياً كان عاجزاً عن أخذ الحكمة والاستفادة من أعمال الحكماء.

صحيح أن للشيب لوناً واحداً، إنما الرؤوس التي تحمله تختلف أشكالها وتتنوع أفكارها، مثلما تختلف وتتنوع كائنات البحر رغم أن البحر واحد، طعمه لا يتغير، ولونه لا يتبدل.

والقمم عالية بذاتها لا بالمقيمين فوقها، فقد يصل إليها ويسكنها الخفافيش وقطاع الطرق والسحالي وحشرات الأرض، ومع ذلك تبقى القمة شامخة، ولا يثنيها أو يخفض من علوّها الساكنون فوقها.

وهناك طريقان للوصول إلى القمة (فإما أن يكون الإنسان نسراً، أو ثعباناً يزحف على بطنه).
لا تخلو الحياة من عقول يصيبها ما يصيب المعدة أحياناً من سوء هضم وامتصاص، فبعض البطون تقف عاجزة عن هضم أبسط الطعام وأرقه، وبالمقابل توجد عقول تشبه إلى حد بعيد تلك البطون، فحتى إذا عرضت عليها أجمل الصور وقرئ على أسماعها أروع الشعر تبقى جامدة كأي حجر، إذ إن همّها الوحيد محصور في الأكل والشرب، والنوم الطويل.

وقد يشفى بعض الناس من جراحهم، وأبداً لا يشفى الأحمق من حماقاته، والجاهل المتمسك برأيه من جهله.

إن كل تغيير يبدأ في الرأس لا من مكان آخر، أي من تغيير الأفكار التي نؤمن بها، ونصارع في سبيلها، ونُغْني حياتنا من أجل تحقيقها، حتى ولو أودت بنا. فما أصعب إقناع السفهاء بالحقيقة، وما أسهل تضليل الحمقى بقليل من الأفكار والمبادئ الرخيصة.

ذلك كمن يحاول إقناع الضفادع والتماسيح أن تستغني عن مستنقعاتها، والعقارب عن ذيولها السامة، والأفاعي عن أنيابها، والخنازير والضباع عن رائحتها.

فالإنسان يولد صغيراً، فارغاً طرياً وناعماً، ومع الزمن يكبر، ويتصلب عوده، وخلال ذلك عليه أن يدرب عقله ويتعلم اكتساب المعارف الصحيحة والأفكار النبيلة. إنما البعض يبقى عقله جامداً، يكبّر جسده ويغذيه باللحم والشحم، ويترك عقله فارغاً، مَثَلُه مَثَلُ أي صوص صغير، يفقس من البيضة، ثم يبدأ تناول الحب والطعام والديدان والحشرات طوال حياته، وبذلك يكبر ليصبح دجاجة أو ديكاً، يكسو جسده اللحم والريش، بينما يظل عقله عقل صوص، صوص صغير، لا أكثر ولا أقل!

العدد 1102 - 03/4/2024