وجبات غير دسمة..!

في زمنٍ باتت الأرصفة فيه ملاذاً آمناً للتسكّع هرباً من السرعات الجنونية للسيارات وتشفيط الزعران، التقى مواطنان عربيان من دولتين عربيتين شقيقتين، أحدهما من غرب الوطن العربي الكبير، والثاني من شرقه، وتبادلا القبل والأحاديث والعبارات الرنانة والطنانة التي يتبادلها زعماء العربان في أكثر من مناسبة. وأكثر من ذلك شربا القهوة العربية الأصيلة المستوردة من أحد أبناء جالياتنا العربية في البرازيل، وأبديا إعجابهما بمذاقها الممهور بالعروبة. وتحدثا عن الروابط التاريخية والدينية والتعليمية وروابط اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد سواء تلك التي تتعلق بالموت أو الولادة، وتحدثا عن الختان وعن الميراث وعن حقوق المرأة وحقوق الجار والتأليف والنشر والطباعة، وحتى عن الرفق بالحيوان!!

وبعد أن طال الوقوف على الأطلال وتذكرا أبا تمام والمتنبي والخنساء وعمرو بن معديكرب والمعيدي وطويس وليالي الأندلس وقرطبة، وحتى ليالي ابن آوى وليلى العامرية ودلال المغربية وفلسطين والجولان ولواء الإسكندرون ولواء التوحيد ولواء أنصار الشريعة، بدأت الأمعاء تتصارع وتتعارك، وأعربا عن رغبة كل منهما بالقيام بواجبه في استضافة الآخر على مائدة عليها ما يشبع نصف سكان إمارة تسحق مواطنيها ومواطني جيرانها وتدفع ثروتها الطائلة لإزهاق أرواح العديد من الأبرياء في أكثر من مدينة وشارع وساحة في الوطن العربي. وبعد أن طال بينهما الحوار والجدال والنقاش وكادا يتعاركان لأن كلاً منهما أمسك بطرف شاربه وأقسم بالطلاق إنه هو الذي يملك الحق باستضافة الآخر لأن الكرم من سماتنا نحن العرب ولا نتخلى عن هذه السمة حتى لو كلفنا ذلك الجود بنصف أرضنا العربية وهوائها ومائها ونفطها ونسائها وأطفالها ودموعها.

ولم يجدا بداً من اللجوء إلى إحدى الوسائل التي كان يستخدمها جورج قرداحي في برنامجه: من سيربح المليون، فاستل كل منهما جهازه الخليوي الذي يعمل باللمس ومربوط بأكثر من قمر اصطناعي غربي، وبدأا في استشارة أقرباء لهما من أصحاب الحكم والمشورة وأصحاب الرأي والرأي الآخر، وكان الجواب النهائي أن لا فرق بين عربي وعربي إلاّ بقربه أو بعده من إسرائيل. ولأن المسافة واحدة كما قاسها خبير أمريكي كان يدرس إمكانية توسيع الأرصفة لتتسع لأكبر عدد ممكن من المتسكعين والعاطلين عن العمل والجائعين، فقد اتفقا على الدخول إلى أول مطعم للوجبات السريعة ودفع الفاتورة مناصفة بين الاثنين.

المشكلة أنهما لم يعرفا قراءة اسم المطعم لأنه مكتوب بلغة أجنبية، ولكن الرسوم التي كانت على الواجهة دلّتهم على أن المكان هو عبارة عن مطعم فخم. دخلا وجلسا على أول طاولة وأخرج الأول علبة تبغ أمريكية، وأخرج الثاني علبة تبغ فرنسية، وبدأا بإطلاق السحب إلى أن جاء أحد عمال المطعم وقدم لهما لائحتين فيهما أربع وجبات غربية ساخنة مخصصة للجائعين العرب التي يقدمها المطعم.

الوجبة الأولى كانت عبارة عن أصناف متعددة من سندويش (التوماهوك) القادرة على اختراق أمعاء أي بلد عربي وتقطيع أواصره وحرق الشجر والحجر والبشر فيه.. إضافة إلى رشات من بهار القنابل العنقودية والفراغية الذكية والغبية القادرة على إسالة دموع ودماء الكبار والصغار، وحتى تحطيم عظام الأموات التي تحتضن رفاتهم الأرض العربية منذ عشرات بل ومئات السنين . ولم يقف الأمر عند هذا إذ كانت الوجبة الثانية التي يقدمها المطعم عبارة عن وجبات من الأسلحة الكيميائية التي تستطيع أبخرتها الفتك بالحواس الخمس، وشل المواطن العربي وجعله رماداً في مهب الريح . أما الوجبة الثالثة فكانت عبارة عن وجبات (سفاري) مؤلفة من عدد من الطائرات والمدافع والذخيرة الممنوع استخدامها ضد إسرائيل والمرحب باستخدامها في أعراسنا نحن العرب، حتى ولو كلفنا ذلك دمار أوطاننا وبيع ثرواتنا المعدنية وغير المعدنية وبيع أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، وبيع عدد من الهجن والجمال والخيم وبعض دلال القهوة. وأخيراً تضمنت الوجبة الرابعة ما يُعرف بطبق الديمقراطية بأشكالها وأنواعها المتعددة التي يهبنا إيّاها الغرب على أساس أنها العلاج الشافي لكل أمراضنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية والعصبية، كحوادث الطرق والهذيان! وعندما لم يرق لهما ذلك خرجا قاصدين مطعماً آخر، فكان أول ما شاهداه رجلاً يرتدي مريولاً ابيض رُسِم على ظهره صورة لديك رومي، فابتسما ملء شدقيهما وتبادلا القبل إذ اعتبرا أنهما وجدا ضالتهما.

بعد أن خلعا معطفهما الواقي من المطر، والوشاح الواقي من الزكام، والقبعة الواقية من الصرع، جلسا على طاولة منفردة ثم تقدم منهما عامل المطعم. كان صبياً في الرابعة عشرة من عمره، قدّم لهما لائحة بالوجبات التي يقدمها المطعم، وانصرف بعد أن أهداهما ابتسامته البريئة. فتحا اللائحة فكانت عبارة عن أربع وجبات شرقية يقدمها المطعم لضيوفه..الوجبة الأولى هي منسف من العشائرية برؤوس أبناء المدينة الواحدة الذين اختلفوا على أشياء تافهة، فتذكّر المواطنان العربيان حرب داحس والغبراء، وهزّا رأسيهما رفضاً لتلك الوجبة، وانتقلا إلى الوجبة الثانية، فكانت طبقاً شهياً من الطائفية البغيضة، مع رقبات دون رؤوس للعديد من أبناء الوطن الواحد الذين اختلفوا على أفضلية الوقوف في الشارع أمام الجامع أو الكنيسة! هزّا رأسيهما رفضاً لتلك الوجبة أيضاً، وأشعلا سيجارتين وعبّا نفساً عميقاً ثم أطلقاه دخاناً كثيفاً، وانتقلا إلى الوجبة الثالثة فكانت عبارة عن سندويش من السلفية التكفيرية مع عدد من السواطير والسكاكين والفؤوس التي شحذت بحيث لا يشعر المواطن العربي البريء بها وهي تفصل رأسه عن جسده. نظر أحدهما إلى الآخر وهزا رأسيهما رفضاً لذلك، وانتقلا للوجبة الرابعة التي كانت عبارة عن (جاط) كبير مرسوم عليه الجولان ولواء إسكندرون وبقايا من فلسطين، فأخرجا منديلهما وبكيا حتى غاصت الركب، ثم نظرا شزراً أحدهما إلى الآخر، وبدأ كل منهما يكيل التهم للآخر بأنه السبب في النكبة والنكسة وضياع الحقوق العربية، ولم تنفع كل محاولات التهدئة التي بذلها صاحب المطعم والعمال لمنعهما من استعمال سيفين حادّين كانا معلقين على الجدار. في أقل من عشر دقائق كانا جسدين هامدين ينتظران عربة نقل الموتى لتنقلهما إلى أقرب مقبرة بعد أن استعملا الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي كما كان موضّحاً على العلبة!

العدد 1104 - 24/4/2024