أزهار شتائية

الشتاء أوشك على القدوم، أحاول استرجاع ذاكرتي، سمعت يوماً عن زهرة الثلج الدافئة، لا أذكر بالضبط أين ومتى، فالذاكرة باتت تخونني، أو تخدعني، وشتاء العمر أيضاً كاد يقترب. ربّما هي حكاية من جملة حكايات قديمة، كنت أرفض أن أنام قبل سماعها. وكانت جدّتي رحمها الله ثريّة وسخيّة بالحكايات. كنت أعتقد أن زهرة الثلج تثير دفئاً غريباً في من يقترب منها، وكم بحثنا عنها دون جدوى!

الآن ما الذي يثير الدفء في الشتاء الموشك؟ أقصد دفء القلب، الجدّة غابت مع حكاياتها، والحكايات غادرت مع طقوسها، أما القلب فمازال على حالته، طفلاً مشاكساً ومتمرّداً على النوم. أحاول إرضاءه بقصيدة، فيسخر من محاولاتي. هناك قصائد جديرة بالسماع أيها المشاكس، أرواح شعرائها مازالت تنتمي إلى عوالم قديمة، داهشة بأساطيرها وملاحمها، ممتلئة بعوالم الماضي السرياليّة، ومنفتحة على آفاق رحبة وآسرة.

بهذا المعنى قد تحمل القصيدة شجن الحكاية التراثيّة، فلماذا لا يرضاها القلب؟ ولماذا كل هذا الحنين إلى الماضي؟ قد تكون الدنيا تغيّرت، والناس تغيّروا أيضاً، بل هذا أمر مؤكّد، فلماذا لا ننظر إلى ما هو إيجابي في هذا التطوّر؟ بالتأكيد هناك الكثير من الإيجابيات، وعلينا التصرّف بطريقة أكثر فعالية مع هذه المتغيّرات، طريقة تجعلنا نستخلص روح الماضي المتوارية بين طيّات وتضاعيف ما يسمّونه بالعصري، أو الحداثي، بهذا فقط يمكننا التعامل مع الخطاب الحالي لأيّ نصّ، لا أن نتجاهله بالمجمل، ونتّهمه بالقطيعة. علينا أن نبحث عن حكايات جدّاتنا في إبداع أحفادهم، نبحث عن أزهار الشتاء وسط أكوام الثلج.

حين كتب بودلير أزهار الشرّ لم يكن منقطعاً عن ماضيه، بل إن الماضي بكلّ ما فيه من حميميّة قادر أن يحمّل النصوص الحديثة أرواحاً متحرّكة على الدوام لتجعل منها مضارعة، إن لم تكن متفوّقة، على الموروث الحكائي، شفهيّاً كان أم مكتوباً. هل يخلو موروثنا الثقافي من أزهار شريرة؟ بالتأكيد لا يخلو، فمن الحكمة الإلهيّة ولادة الشوك من الورد، وولادة الورد أيضاً من الشوك. هو تمازج الخير والشرّ في عنصر واحد مركّب. ومن الحكمة البشريّة النظربتفاعل إيجابي مع هذا التركيب اللغز.

وإذا كان الأمر كذلك فسنبقى نترقّب الأزهار وهي تضيء منبئة بقدومها، لتضيء سديماً شتائيّاً مفعماً بالغموض والأسرار، وسننتظر قدوم جدّة بلباس شاعر عصري يستطيع إرضاءنا وسط رفض عميم يحيط بنا دون رحمة. وسنبقى كالأطفال نمدّ أيدينا لنتدفّأ بحرارة قصيدة خارجة على كل القوانين والأنظمة الأدبية والنقديّة، بجميع مدارسها وتيّاراتها واتّجاهاتها، ومنطلقة إلينا بكلّ حمولاتها الدافئة.

العدد 1104 - 24/4/2024