ذكرى مأساوية

 مرت في 25 كانون الأول 2016 الذكرى السنوية الـ25 لتفكك الاتحاد السوفييتي.. وتمر في هذا العام الذكرى المئوية لحدثين تاريخيين، يسجل هذا الشهر الذكرى المئوية لثورة شباط 1917 في روسيا، التي بدأت بمظاهرة حاشدة لعاملات النسيج وأطاحت بالقيصر في خمسة أيام.. واستمر الحراك الثوري في أنحاء الإمبراطورية القيصرية ووصل ذروته في تشرين الثاني من العام نفسه في ثورة العمال والفلاحين والجنود بقيادة حزب لينين البلشفي الذي لم يُنهِ الملكية إلى الأبد فحسب، بل قلب الطبقة الرأسمالية وكل الأرستقراطية صاحبة الأراضي.

ستكتب الصحافة التقدمية الكثير عن أحداث عام 1917 الصاخبة التي أعلنت أول دولة للعمال في العالم، ولكننا نتناول الآن ما حدث قبل 25 عاماً وما كان معناه لعمال ومزارعي الاتحاد السوفيتي السابق، الذي كان يسمى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية.

ناضل الاتحاد السوفييتي منذ ولادته من أجل البقاء في عالم رأسمالي معاد، ومني بأكبر خسائره في الحرب العالمية الثانية عندما هاجمت ألمانيا النازية الاتحاد السوفييتي في أكبر غزو في تاريخ العالم. كان اسم العملية بارباروسا ونشرت ألمانيا أربعة ملايين جندي على جبهة طولها 1800 ميل.

بعد أربعة أعوام دموية فقد خلالها الاتحاد السوفييتي أكثر من 27 مليون إنسان ومعظم صناعته تمكنت القوات السوفييتية من دحر جيوش هتلر، وحررت أوربا الشرقية من الفاشية ورفعت العلم الأحمر على قمة مبنى البرلمان (الرايخستاغ) في برلين.

لم تُمنَ الولايات المتحدة عملياً بخسائر مادية في الحرب العالمية الثانية.. خرجت في الحقيقة من الحرب باقتصاد أنتج نصف البضائع المصنعة في العالم. ومن عام 1946 بدأ الإمبرياليون بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا حرباً جديدة- الحرب الباردة- مستهدفين الاتحاد السوفييتي.

الحرب الباردة وسباق التسلح

كان الاتحاد السوفييتي لايزال يناضل من أجل إعادة البناء وتمكن من تقديم القليل لبلدان أوربا الشرقية- المتحالفة معه الآن- في حين ضخت الولايات المتحدة مليارات الدولارات إلى أوربا الغربية من خلال مشروع مارشال، من أجل استقرار الاقتصادات الرأسمالية هناك، رافق سباق التسليح الضخم الحرب الباردة، وكان القصد منه إفلاس الاقتصاد السوفييتي الموهن.

فرضت كل هذه الضغوط الضخمة على دولة العمال الأولى التي تحاول بناء الاشتراكية ضريبتها على النظام السوفييتي منذ البداية، وظهر هناك في آخر الأمر قادة في الحزب الشيوعي كانوا مستقتلين للتكيف مع الإمبريالية.

في أواخر ثمانينيات القرن العشرين قدم اثنان من هؤلاء الأشخاص (ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين) تنازلات سمحت ببعث الرأسمالية في أوربا الشرقية، مزقا الاتحاد السوفييتي إلى 15 جمهورية منفصلة وحوّلا صناعته المملوكه للدولة إلى ملكية خاصة محلية وأجنبية.

ما أعقب تدمير الاتحاد السوفييتي كان ثورة مضادة كاملة، تشارك الرأسمال الأجنبي والمسؤولون السوفييت السابقون الفاسدون في اختطاف ما كان ملكية الدولة، في حين هوت الظروف المادية للجماهير الواسعة من الشعب.

كانت مارغريت تاتشر، زعيمة حزب المحافظين التي هاجمت النقابات هناك وأغلقت البرامج الاجتماعية، أول من منح بركات الإمبريالية للتغييرات في الاتحاد السوفييتي عندما قالت في عام1984: (يعجبني السيد غورباتشوف.. نستطيع العمل معاً).

عندما ذهب الاتحاد السوفييتي حصل غورباتشوف على (مكافأته) بالظهور في إعلانات تجارية للبيتزا.. يا له من سقوط لشخص قاد بلداً من 287 مليون إنسان، ولكن لا شيء يشبه ما يكابده العمال في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.

الظروف في ظل الرأسمالية

بلغ متوسط طول العمر في الجزء الروسي من الاتحاد السوفييتي سبعين عاماً في عام ،1991 وبعد بعث (السوق الحرة) انخفض إلى 65 فقط. انخفض مجموع السكان في  الواقع للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية عندما  تجاوز عدد الوفيات عدد الولادات.. جرى التخلي عن نظام الرعاية الصحية المجانية إلى جانب تفكيك كل الضمانات الاجتماعية للتشغيل والتقاعد والعطل المدفوعة الأجر والفوائد الأخرى التي تمتع بها العمال السوفييت.

عكس انتشار الإدمان على المسكرات وتعاطي المخدرات والدعارة يأس الملايين الذين ألقي بهم إلى الذئاب، في حينه أنشأ مقاولون أسواقاً جديدة مربحة من تجارة النساء والمخدرات المسببة للإدمان، وأصبحت الظروف في الأجزاء الأخرى من الاتحاد السوفييتي مماثلة على الأقل إن لم تكن أسوأ.

خلال هذه الفترة عدّت الولايات المتحدة روسيا (صديقة)، وعانقت قادة من أمثال غورباتشوف ويلتسين وافقوا على التفكيك الأثيم لما بناه العمال، وإن أصبحوا فاسدين ومهجرين.

فقط بعد أن تمكنت روسيا وهي الآن بلد رأسمالي صريح، من استعادة السيطرة على بعض مواردها الحيوية مثل النفط، وعززت البنية السياسية والاقتصادية التي وضعت مصالح التنمية الروسية فوق مطالب المصارف والشركات الإمبريالية، تغير موقف الطبقة الحاكمة الأمريكية.. تحسنت ظروف الجماهير في الفترة الحالية لدرجة أنه حتى الإعلام الإمبريالي اضطر للاعتراف بأن فلاديمير بوتين يتمتع بشعبية بالمقارنة مع الذين باعوا الاتحاد السوفييتي.

معظم أصحاب السلطة من الطبقة الحاكمة الأمريكية معادون صراحة الآن لبوتين، لدرجة لوم روسيا بشكل ديماغوجي على انتصار ترامب. قد يفكر الرئيس الأمريكي الجديد أنه يستطيع إغراء الطبقة الحاكمة الروسية للانفتاح على كامل إمبراطورية ترامب من ملاعب الغولف والفنادق والكازينوهات.. ولكن هذا لن يوقف البنتاغون عن بناء قواعد جديدة وتحريك المزيد من القوات إلى حدود روسيا.

العدد 1105 - 01/5/2024