الإسلام السياسي.. إشكالية العلاقة مع الدولة

 الإسلام السياسي هو ظاهرة محلية عالمية قديمة ذات أبعاد فكرية ونفسية واجتماعية وسياسية، يتجلى بسمة الانبهار والجذب الشعبي والشبابي، كحالة عامة، منتجة الحالة المتردية في معظم الدول العربية والإسلامية، وسياساتها الفاشلة التي أنتجت الانهزامية لدى الشباب وعزوفهم باتجاه رومانسية الخلود الأعلى عبر الجهاد.

قد يكون ما قلناه لا يفي التعريف المشار إليه حقه..

شهد الإسلام السياسي نمواً واسعاً في الدول العربية والإسلامية، أولى سماته وأهدافه:

* إقامة دولة إسلامية شعارها (الحاكمية لله)، تعتمد الدين مرجعية وحيدة.

* إحياء العقيدة بكل مفرداتها (قرآناً وسنّة).

* محاولة الجمع بين السلفية والتجديد، بين التراث والمعاصرة، الثوابت والمتغيرات..

طبعاً نجد بين مفردات التجديد والأصالة نصوصاً معتمدة ذات مرجعية دينية.

* رفض الحوار وكل الأسلوب الديمقراطي.. بالتالي رفض التعايش إلا وفق منظور (أهل الذمة).

* من كل ما سبق نجد ونستنتج مدى العداء والكراهية والحقد تجاه كل ما هو تقدمي ويساري، فالإسلام السياسي عبّر عن نفسه، بتشكيل تنظيمات جهادية متطرفة، نمت كالفطر، مارست في الخفاء أعمالاً ثقافية واقتصادية وتعليمية وخيرية، تتخذ من شعاراتها البراقة صورة مزيفة لإخفاء توجهاتها الاستراتيجية (إخوان مصر).

الكارثة في أسلوب هذه التنظيمات تطرفها المفرط والعنيف، فهي شكلت منظومات أمنية وعسكرية مرهوبة الجانب، وفي بعض المفاصل التاريخية تبرز أقوى من الدولة، هي تغلغلت في مؤسسات الدولة، وأنشأت صفوفها الخاصة التي تدين بالولاء لها لا للوطن. هنا يبرز موضوع الولاء الذي يعتبر الوطن أساس المواطنة. فإخوان مصر سيطروا على العديد من مفاصل حيوية في الدولة، وسخروا نواتجها لنفوذهم، فاستثمار ذلك يعني لهم عاملاً شرعياً لا لبس فيه.

طبعاً لعب الإسلام السياسي عبر أدواته على مسارات التنمية التي تنتجها الدولة، وهو لا يعبأ وغير مكترث بمصالح غالبية أبناء الشعب. وهنا لا يغيب عن بالنا ما يسمى (الربيع العربي) الذي كان وبحق ربيع الفوضى والدمار، فحتى فساد أجهزة الدولة أهون شراً من الفوضى.. طبعاً نحن لا نبرر الفساد إطلاقاً، ولا نبرر الظلم وسنبقى نرفضه، لكن ما طُرح من أهداف لإصلاح توجهات الدول وإسقاطها، وبالتالي المجتمع، أكد لنا بما لا يدعو للشك أن العمل السياسي السلمي هو المآل الوحيد لتصحيح الأوضاع، وهذا ما نلحظه في سياسة الشيوعيين السوريين الذين لا يحوي تاريخهم أي ظاهرة عنفية. كما نعتقد تعاظم دور الإسلام السياسي الهائل في نشر الفوضى العارمة، في كل المجتمعات التي يصل إليها، عبر انقسامات شاقولية وأفقية مهدداً النسيج الاجتماعي التعايشي وتعميق الفجوات بين أبناء الوطن الواحد عبر إعلام يخاطب الغرائز المذهبية (سورية والعراق). إن التنظيمات المتطرفة لم تكتف بممارسة العنف ضد المجتمع والمخالفين لها، بل طالت الصراعات الدموية أطياف هذه التنظيمات وبتشدد أكثر وإرهاب أوسع.

أيديولوجية الإسلام السياسي

كل التنظيمات ذات التوجهات الجهادية تحمل فكراً أحادياً، بلون واحد يرفض كل الألوان، ذي وعي متحيز، هو منحاز بالمطلق بتفويض ربّاني مدّعى، بعقلية استعلائية منفرة خشنة، تحمل فكرة القبيلة والعشيرة وأسلوبها العيشي اليومي (شبه الجزيرة العربية) جلافة الصحراء واضحة في الممارسات والسلوك.. المصيبة الكبرى هي عند استلام السلطة أو زمام أمر ما، إذ يبرز الاستعلاء المتحيز، فيسود قهر وإذلال للتابعين لا مثيل لهما (غوطة دمشق مثال صارخ).. فتنتشر حرب الفتاوى، وبالتالي التصفيات لأبناء الصف الواحد، وبشكل مريع، فتجد كل الفصائل المسلحة في سورية تخوض حروباً ضارية فيما بينها.. هذه الفصائل بمعظمها يعتمد الدين معياراً أساسياً لها، ولكل فصيل توجهاته ومفتيه، ونظرية الحكم لديه.. هي حق رباني يمنحه كل فصيل يدعي أنه المصطفى لله ورسوله، بحكم الدم الأزرق الذي يجري في عروق أعضائه.

أيضاً إذا أنجزوا النجاح عبر الفوز بآليات ديمقراطية فهم ليسوا مشرعيها، فهذا أيضاً قدر إلهي، وعلى الآخرين المبايعة.. لا مانع لديهم من النفاق والتضليل في الوصول، ولو عبر تشريعات غيرهم.. لكن إن وصلوا سرعان ما يجري إلغاؤها أو تغييرها، وما كلامهم عن الإرادة والشعبية إلا نفاق رخيص مبتذل (إخوان مصر). هنا نجد طرح الإسلام السياسي في سورية (الشعب يريد إسقاط النظام) عبروا عنها بإرادة الله التي تنفخ في أرواحهم، وبالتالي لا يهم تدمير كل مقومات الحياة بكل أشكالها في صراعهم مع السلطة، فالناس الذين يموتون نتيجة الصراع، هي حالة منفعية قدموها للبشر الذين انحرفت حياتهم عن الشريعة، فإن كان سلوك الفرد الميت حسناً أثناء حياته، فهم عجلوا به للجنة، وإن كان مسيئاً، فهذا قدر الله، وبالتالي عجلوا في حسابه للآخرة.. هم يقررون أسلوب حياتك الخاص والعام والدنيوي وما في السماء!

خيانة وتحالف

كل مشتقات الإسلام السياسي ومفرزاته بمختلف تلاوينه تقريباً هو خائن لوطنه. فهو يتحالف مع أعداء الوطن، ويزدادون شراهة وشراسة، وما نلاحظه في المجموعات المسلحة وطرق إمدادها خارجياً لتخريب بلدها مثال فاقع، ينفذون أوامر دول إقليمية مهيمنة.. وبالمقابل لا مانع من التعاون والاستنجاد بدول معادية لإسقاط النظم (جبهة النصرة وإسرائيل).. المهم لديهم إسقاط الهوية الوطنية وخلخلة المجتمع هدف دائم. أيضاً نرى ضعفاً بالإسلام السياسي عبر كشف عوراته، فأحد استنتاجات ربيع الفوضى أظهرت بأم العين أنه لا يمكن بناء دولة دينية لأنها لا تستطيع تلبية حاجات التطور الموضوعي.. ربما تستطيع بناء إمارات وكيانات هزيلة متصارعة متناقضة. المفارقة في أصحاب الإسلام السياسي تقمصهم آلية الحياة لدى الصحابة، واستخدام تكنولوجيا القتل، فالحياة المدنية ليست في أولوياتهم، ولا يسمحون للغير بممارستها.

ما العمل؟.. مهام القوى الوطنية والعلمانية

ماذا قدم الإسلام السياسي للمجتمع؟ أعتقد أننا قدّمنا بعض الإجابة على ذلك، وكل ما يحدث في بلدنا يعطيك الإجابة ببراهين واقعية. إننا كعلمانيين نحتاج إلى بناء مرجعية معرفية علمانية وعلمية جديدة، منفتحة واقعية، ذات توجهات لأنسنة الإسلام، وتأويل نصوصه إلى مجالات رحبة للمساهمة في إنتاج مشروع إنساني يوسع انتماء الفرد لوطنه وتعزيز التعايش السلمي مع كل مكونات المجتمع. أيضاً من أولى واجبات الوطنيين واليساريين إنتاج جهد معرفي في فضح زيف اداعاءات الإسلام السياسي، وفضح تلك القراءات التاريخية الزائفة المحرفة والهرمة، فالماضي لن يعود ولو كان ذهبياً.

لابد من بناء استراتيجيات وطنية لمجابهة هذا الفكر الهدام، وفضح الحالة التسويقية الاستهلاكية الحنونة للماضي، وكسر حلقة ربط الحاضر والمستقبل بالماضي الزائل.. حقيقة الدول بمحاولات احتوائها الإسلام السياسي فشلت فشلاً ذريعاً..

هنا يقع على عاتق القوى الوطنية والتقدمية والعلمانية المهام الكبرى، وهنا تتفرع طرق المجابهة، من فعل سياسي اجتماعي ديمقراطي، يعزز النضال السلمي والمدني، فسورية هي للسوريين جميعاً بغض النظر عن الانتماء، فهل يتعظ الوطنيون لمستقبل بلادهم ومستقبل أفكارهم؟ هذا ما تثبته الأيام القادمة.. التي ربما ستكون فرصة هامة أمام تقهقر الفكر السلفي الجهادي المتطرف، الذي بدأت أفكاره بالذبول وخفوت وهجه، هي نتيجة مرة وحصاد مدمر.. فهذا الشعب الصابر يستحق نخباً وطنية تقدمية، تزيد وعيه وتفتح آفاق المستقبل له بعيداً عن التعصب والتفتت.. فهل سنشهد ذلك؟

العدد 1105 - 01/5/2024