حول شبكات تصنيع صدام الحضارات

إن أعداداً متزايدة من الناس تقع ضحية الخطاب التعبوي للأقلام المأجورة ومن أكثرها إصراراً أقلام شبكة كتاب موقع العربي الجديد، الذي يديره عزمي بشارة الذي أعلن اعتزاله العمل السياسي مؤخراً، لرغبته في التركيز على الجانب الفكري والبحثي على حد زعمه، ولكن السبب الأقرب للتصديق، هو أن دوره قد انتهى ب (كش ملك) من قبل موزة بنت ناصر المسند، في إطار تقليص النفقات بعد ست سنوات من الكلفة المرتفعة لتدمير الكيان السوري دون الوصول إلى هدف إسقاط النظام.. من جهة، ومن جهة ثانية لكون مهمة نشر شبكات مروجي تكريس القيم الثقافية الأمريكية داخل النسيج السوري قد أنجزت وتكتسب المزيد من المعولمين، وقود الصدام الدائم.

عزمي بشارة بقي متخفياً بملابس المناضل القومي العربي العنيد الذي يقارع الاحتلال الصهيوني من قلب مؤسساته، ولم تكشف قناعه الزائف فقط المراسلات التي نشرها موقع اليوم السابع بينه وبين القيادات القطَرية وتضمنت بداية استشارات ونصائح بدعم المتظاهرين في سورية وتقارير عن أعدادهم وترشيح أسماء المثقفين المعارضين لاستضافتهم على قناة (الجزيرة) التي تحولت مع تصاعد الاحتجاجات إلى منبر للتعبئة والحض على العنف المذهبي بإدارته، تضخيم الاضطرابات وفبركة أفلام الفيديو وضخ أكبر كمية من تشويه الحقائق ، ولم تكشف قناعه فقط تصريحات الصحفي الصهيوني أمنون أبراموفيتش للقناة الصهيونية الأولى في 16 حزيران 2001 بأن عزمي بشارة كان يلتقي يهود باراك والجنرال داني ياتوم رئيس الموساد قبل كل زيارة لدمشق ويعود من ثم ليقدم تقريره، ولا كتاب الدور المشبوه لعزمي بشارة للكاتب الجزائري يحيى أبو زكريا الذي أكد أن الهدف من التهم الإسرائيلية له، بعد أن غادر فلسطين المحتلة على أثرها الى الدوحة فرش بساطاً واسعاً لعزمي بشارة باتجاه دوائر القرار العربي لمواصلة مهمة الاختراق على الصعد السياسية والأمنية والثقافية، ولا حتى الرائحة الكوهينية التي فاحت من انتقاله إلى العرش الإعلامي القطري إلى جانب القرضاوي، وأكدها العديد من الكتاب الفلسطينيين، فكل ذلك الملف الاتهامي يمكن تحييده، خاصة بوجود العنصر الصهيوني الذي لا نثق بالمطلق في مصداقيته،

لكن ما لا يمكن تجاهله على الإطلاق، الممارسة التعبوية لعزمي بشارة وشبكاته في – العربي الجديد – وقد أزاحت آخر الشكوك عن وجهه اللبرالي الجديد ودوره الجوهري في التصنيع الميداني لصدام الحضارات، في مقابلاته والخطاب السياسي والأدبي لمأجوريه على الموقع ونقاشاتهم مع الناس في المقاهي وعلى الأرصفة ومواقع التواصل الاجتماعي، وما حمله ذلك الخطاب من خطورة استخدام جاذبية الديمقراطية بالنسبة لشعوب افتقرت إليها تاريخياً، وحصانة هذا الملف بوجودها كنقيض للاستبداد، ولعبة محاصرة المتلقي بين خيارين أحلاهما مر، إما الاستبداد أو ديمقراطية مفروضة كأداة للهيمنة الأمريكية، وهي اللعبة الأكثر قذارة التي لعبها عزمي بشارة وشبكاته بتمويل مشيخة قطر الإخوانية التي لم تعرف قط أدنى شكل للديمقراطية ولا للحياة الحزبية والسياسية ولا للحقوق المدنية او حقوق العمال، ومن سخريات التاريخ أن تؤسس هذه المشيخة، منظمة مدنية عربية دولية تدعو للديمقراطية كثقافة وطريقة حياة ونظام حكم هي المؤسسة العربية للديمقراطية التي يشغل عزمي بشارة عضوية مجلس أمنائها،وهي بؤرة من بؤر المخابرات الغربية التي سميت منظمات المجتمع المدني.

لقد شكلت مشيخة قطر الإخوانية أحد أهم مصادر التمويل لعقد مؤتمرات المعارضين السوريين المرتبطين بمختلف الأجهزة الأمنية الدولية والأقليمية وبناء كيانات سياسية موسعة لإسقاط النظام السوري ومنح شيكات على بياض لمن ينشق عنه، وتمويل منظمة العفو الدولية لإصدار تقارير تؤجج الحرب في سورية (حسب عنوان مقالة ريك سيترلينغ) وتمويل غرف العمليات الأطلسية وشبكات العنف الإرهابية المسلحة التي تديرها، وكذلك وعلى حد سواء شبكات عزمي بشارة للتضليل والتغطية الفكرية والسياسية، وقد لا يدرك المتلقي وهو في غمرة التوق إلى الديمقراطية في أي مصيدة أوقعه هذا العهر الفكري والسياسي،الذي لا يتمثل فقط بتسليع الفكر والمواقف المأجورة، ولا في التطاول على مفهوم ورموز المقاومة والممانعة والقوى الوطنية والتقدمية وحركات التحرر الوطني وتشويه صورتها وتاريخها، إنما في استخدام الملفات ذات الجاذبية كشكل تجميلي لمحتوى سياسي متناقض معه، يهدف لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية لقوى إقليمية ودولية، والتلاعب بوعي الشرائح المهمشة والمقهورة مذهبياً وطائفياً بوهم ثوري ملفق يستند في بنيته إلى مزيج غير متجانس من العلم والدين ويتقاطع من حيث المفهوم والوظيفة مع الفكر الإمبريالي ويستخدم هذه الشرائح لتحقيق أهدافه في إقامة نظام بديل تابع يتخلى عن السيادة الوطنية ويدوس على دماء مئات آلاف السوريين وأنقاض مدنهم المدمرة.

لقد بات معروفاً أن أهم الأسباب الحقيقية لعدوانية السياسة القطرية تجاه سورية هي رفض القيادة السورية مرور خط الغاز القطري عبر أراضيها وتقليص النفوذ الإيراني على الحدود الشمالية للكيان الصهيوني والقضاء على أي أمل بمد تحرري سيطول آجلاً أم عاجلاً حكام الخليج البعيدين كل البعد عن الديمقراطية حسب تعبير المستشرق الفرنسي فريدريك بيشون، الذي أكد أنهم صنعوا وصدروا الإرهاب للمحافظة على كياناتهم (المحنة السورية ص117). وأكدت عدة مقالات أمريكية ذلك، أهمها ما جاء في تقرير مايك ويتني بأن الحرب على سورية لم تبدأ بمواجهة الحكومة السورية للمتظاهرين في 2011 بل عام 2009 عندما رفض الرئيس بشار الأسد مشروع نقل الغاز القطري، ومنذ ذلك الوقت بحسب ويكيليكس بدأت ciaبتسليح المجموعات المعارضة، ولذلك فإن السناريوهات الانفعالية التحريضية لكتاب العربي الجديد وغيرهم هي مجرد دجل واستغباء واستغلال لقهر الطبقة المهمشة من الشعب السوري وبرمجة وعيها وانتزاعها من موقعها الطبقي الوطني وزجها على جبهة صدام الحضارات، وقد ساعد هؤلاء الكتاب على تحقيق مهمتهم وجود عزمي بشارة في مشيخة قطر التي لم يتم بعد إعلانها رسمياً كضفة شرقية للكيان الصهيوني متحرراً ومحرراً شبكاته من ضغط قرار المقاطعة والملاحقة بجرم التعامل مع العدو.

ما يحتاجه السوريون وغيرهم ليست مسرحية ديمقراطية تنقلب إلى ضدها في مهدها ولا أي شكل هدام لها، بل ديمقراطية تسير بالحياة الاجتماعية والسياسية في الطريق التصاعدي للتطور الطبيعي، وما يعيق ذلك هو الوضعية التاريخية الرجعية الاغترابية للمجتمعات في ظل العولمة، الناجمة عن جهاد مفكري السياسة الخارجية الأمريكية لما يزيد على نصف قرن من التمزيق السافر للقوى التقدمية والتصعيد الممنهج للقوى الدينية على مستوى العالم وقد رأينا شراسة الأمريكيين حين وصلت قوى تقدمية بالديمقراطية الى سدة الحكم كما حدث لأليندي تشيلي أو شافيز فنزويلا، لذلك فإن هانتنغتون ما كان غامر بتعميم النموذج الأمريكي الاحتوائي للديمقراطية لو كان هذا النموذج عامل تحديث للمجتمعات ولولا علمه بأن الديمقراطية هنا عربة تنقل القوى الرجعية الأشد استبداداً إلى السلطة ثم تحترق، ولولا اكتمال نتائج عمل مجاهديه مجسدة بأغلبيات معولمة مضمونة وقابليتها للتصديع داخل مجتمعاتها في حالة جهوزية للصدام الحضاري الدموي والشبكات المختصة بتغطية فضيحة الإعاقة من المبشرين المأجورين سواء كانوا ذوي ماض يساري أو يميني أو ديني يكرس حالة التسليم اللاهوتي بديمقراطية قهرية مقدسة بعيدة عن المساءلة والنقد ورهينة بيد النظام الاقتصادي العالمي المتوحش ترتكب باسمها ما بين نفيها ونفي نفيها مئات المجازر دون حسيب ولا رقيب.

العدد 1105 - 01/5/2024