تبلور الدور الروسي في قضايا الشرق الأوسط

لاشك أن انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990-1991 قد غير مجرى التاريخ العالمي، وهو من منظور معين انتصار لمبادئ الديمقراطية الغربية، لكنه بنفس الوقت دفع بالولايات المتحدة إلى فرض نفسها على العالم الرأسمالي، وإدارة تناقضاته كقطب عالمي أحادي، يعمل على تحقيق مصالح الولايات المتحدة والإبقاء على هيمنتها على العالم. وكأن من غير المسموح إطلاقا تجاوز منظومة مراكز قرار الرأسمالية الأمريكية الممثلة بشكل رئيسي بشركات السلاح والطاقة والتكنولوجيا، وأيضاً قيادتها السياسية الممثلة بالإدارة الأمريكية واللوبي الإسرائيلي، حتى ولو كان المشروع الآخر (الروسي)، هو بمثابة مركز رأسمالي آخر غير متناقض في الجوهر مع السياسة الأمريكية ومنظومتها الرأسمالية، لكنه يريد مشاركتها بطريقة وفاقية وتشاركية.

وتعتبر الحملة العسكرية الروسية على جورجيا المؤشر الأول على أن روسيا بدأت نهضة واسعة لإعادة الاعتبار إلى نفسها على الصعيد الدولي، وإزالة أي آثار سلبية متبقية من مرحلة الحقبة السوفييتية، حيث حل الاتحاد الروسي محل الاتحاد السوفييتي سابقاً بثقافة وقيم سياسية ودبلوماسية تقوم على أساس الشراكة الدولية، في معالجة القضايا والمشاكل العالمية، ومعايير التعاون والمصالح المتبادلة. ومبدأ عدم التدخل العسكري، وتطبيق واحد للقوانين الدولية. وتطوير الأمم المتحدة ومؤسساتها، وعدم تجاوز قوانينينها وقراراتها، والابتعاد عن الأحلاف العسكرية، وروح التسلح والعسكرة. لكن في محاولة منها لمحاصرة روسيا، دفعت الولايات المتحدة بكل إمكاناتها لإعادة صياغة المشرق العربي بذرائع وتبريرات واهية، فكان لا بد من كبح جماح صعود الاتحاد الروسي وشق مساره المستقل والخاص. هكذا انطلق خلاف وتناقض وصراع دولي جديد، وبوادر عالم متعدد القطبية. حاول فيه الاتحاد الروسي قطع الطريق على ردود الفعل الأمريكية وحلفائها الأوربيين، التي شملت العقوبات الاقتصادية وتخفيض أسعار النفط، الإمعان في خلق الخلافات الأوربية الروسية وتركيز التناقضات بينهما. إشعال الأزمة الأوكرانية، وتطوير الصراع في الشرق الأوسط خاصة في سورية.

في الواقع إن الإدارة الروسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين لم تكن غافلة عن سياسة الاحتواء الأمريكية وحلفائها الأوربيين. وبالتزامن مع الخطاب الروسي في مفهوم الشراكة الدولية في قيادة العالم، كانت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون وبعض المراكز الثانوية الإقليمية تزيد من حدة الخلافات الدولية، بسياسات توسعية متسرعة لحلف الأطلسي لضم دول حول الاتحاد الروسي. وتوتير عالٍ في منظومة أمن ونقل الطاقة والغاز الروسي، وعقوبات مباشرة في ميادين اقتصادية ومالية عديدة. ثم الاستمرار في تهميش الدور الروسي سياسياً ودبلوماسياً على الصعيد الدولي. دفع كل ذلك القيادة الروسية لمعالجة سياسات الهيمنة الاميركية وسياسة الاحتواء وتأمين مصالحها العليا بمنطق دفاعي، ليظهر موقفها أكثر جذرية ووضوحاً في الفضاء الجيوسياسي المحيط بروسيا، والذي يمكن أن يمثل خطراً مباشراً على امن الاتحاد الروسي مثل أوكرانيا وسوريا. من هنا كان الموقف الروسي في الصراع في الشرق الأوسط وخاصة في الأزمة السورية حاسماً، خاصة بعد الموقف العام من تحيز الأمم المتحدة لصالح المصالح الغربية، وسياسة الولايات المتحدة في التجربة الليبية، والدعم الضمني الأمريكي للإرهاب في المشرق. حيث تشير متابعة التصريحات الرسمية للدبلوماسية الروسية إلى مراجعة وتلافي أخطاء سابقة، انعكست على تبلور علاقة جديدة ومختلفة مع الإدارة الأمريكية، تستند إلى قناعة الروس تمضي الإدارة الأمريكية في سياسة خلق الأزمات الدولية، والهيمنة على قرارات الأمم المتحدة، وتأويل هذه القرارات بما ويتناسب وتأمين المصالح الأمريكية. وأولى نتائج هذه العلاقة الجديدة ظهرت بشكل خاص في أداء الإدارة الروسية لإدارة وتقييم ملف الأزمة السورية ودعمها الحل السلمي والحواري للخروج من منها، كما هو سعيها حالياً لإنجاح مؤتمر موسكو2 المُزمع عقده الشهر القادم.

العدد 1105 - 01/5/2024