غيم على الوجوه

ناس قاماتهم طويلة، وعلى وجوههم يترك الغيم بعد الرحيل آثار رماده، ناس يضجّ الاخضرار في عيونهم لينسرب آمالاّ في الخلاص، وعلى أصابعهم ارتعاش طفولي، وأحلام لا تهدأ بأن يرسموا أوطانهم واسعة على قدّ هواجسهم. ناس يديرون خدودهم للمحن، لكنك إن لامست أطراف الوطن يتحوّلون إلى سباع. وإن كانوا لا يحصدون سوى الخيبات، لكنهم ممتلئون بعشق غريب، لم يعتد غيرهم عليه، عشق للهواء والماء والتراب، عشق يجعلك تنحني أمام بريقه الآسر، وتتراجع حين يفاجئك ببدائية محببة.

أحياناً تتولّد لدينا رغبة في التعرّف إلى نماذج مختلفة من البشر، فنجد أنفسنا أمام أصناف وأنواع لا تختلف فقط بأشكالها، وإنما بوظيفتها أيضاً، تماماً مثلما نقف أمام واجهة زجاجية لبيع الدمى والتماثيل، نبحث كثيراً عن أشياء تشبهنا، وقلّما نراها، ليس لأننا متفرّدون، وإنما لأننا نجد أنفسنا كذلك. هكذا نشعر، نرى أننا على صواب والجميع مخطئون، لذلك نعتقد أن لكل الناس أشباهاً من الدمى، إلاّ نحن فلا شيء يشبهنا. وهذه ال (نحن) طبعاً تنطبق على كل من هبّ ودبّ من معشر البشر.

بأيّة مقاييس إذاً تقاس الأمور؟ وما المعيار الدقيق لتصنيف الناس؟ كيف نميّز الوطنيين من اللاوطنيين، والصادقين من الكاذبين؟ وبأي حق نفعل ذلك؟ ومن يمنحنا هذا الحق؟ تساؤلات تكاد ترهقنا، ولنهرب منها نعطي أنفسنا صفة التمايز، فنحصل على حق التصنيف، نحن فقط من يحق له أن يقيّم. وهذه ال (نحن) أيضاً تنطبق على البشر كلهم. إنها ألعوبة وأكذوبة في آن، فما نحن في الحقيقة سوى مفردات من مجموع هائل لكائنات يتشكّل العالم منها في غفلة عن سطوة ال (نحن).

دائماً نقول إن الوطنية انتماء، ونتوقّف. انتماء إلى من؟ ولأي شيء؟ هل هو انتماء إلى الوطن؟ وللوطن عند كل مفردة معنى خاص. فهو أماكن متعددة، ومفاهيم متناقضة أحياناً بين أبناء البيئة الواحدة، هل هو انتماء إلى فكر وعقيدة؟ بهذا تتعدد الأوطان أكثر، تتشعّب وتتقاتل في مهزلة نكون أبطالها. هل هو انتماء لتاريخ؟ ومازال التاريخ مشكوكاً بصدقيته، فكل فئة تأخذ منه ما يناسب مفهومها للوطنية وللوطن. ويبقى المكان متأرجحاً بين متناقضات لا حصر لها.

نحاول الارتقاء أحياناً، فنقول وطن الشاعر قصيدة، ووطن الرسّام لوحة، وننسى أن القصيدة جسد من حبر وكلمات، وأن اللوحة خليط من ألوان وأشكال. وبهذا المعنى لا يمكن لإحداهما أن تشكّل وطناً مهما تعاظمت معانيها ودلالاتها. ولا يمكن أن ينتمي المبدع إلى ما يبدعه فقط، فمازال بين خافقيه المزيد من الأوطان في لحظات كمون، تنتظر شعاعاً لتتشكّل. الوطن أكبر كثيراً مما نظن ونعتقد، ولا يمكن الوصول إلى أطراف معانيه مهما ارتقى بنا الإبداع، وارتقينا به.

ما الذي يجعلنا نمتلئ بالغبطة حين نسمع أغنية وطنية؟ ولماذا نضع مغنّيها حين يعيش وطنيته الخاصة التي لا تناسبنا في الضفّة الأخرى لمفهومنا عن الوطن؟ ولماذا يحمل الوطن كل هذه المعاني المتناقضة؟ أم أننا نحن من يجعلها متناقضة بممارساتنا وسلوكنا وأدائنا؟ وإذا رأينا أن الوطن يوحّدنا بوحدة المصير، فهل هو حقاً كذلك؟ هل يكون مصير فقير كمصير غني حين تحلّ بالوطن نائبة؟ وهل يكون مصير شاعر كمصير قائد عسكري؟

وحدهم الكبار والعظماء من يوحّدون هذه المتناقضات في تشكيلة عقلية يبرز معها المفهوم الحقيقي للوطن. أولئك الذين يديرون خدودهم للمحن، ويتحوّلون في لحظة اختناق وطنية إلى سباع. أولئك فقط يتباهى الغيم بملامسة جباههم، أولئك يفهمون الوطنية الحقّة ويعيشونها دون نفاق، وحين نودّ معرفة المقاييس التي يعايرون بها يبتسمون، فنرى الموازين تعتدل على وجوههم بنظرة فيها من الحب الكثير، ومن التفاني أكثر. أولئك الناس دائماً نطمح أن نصل إلى مستوى قاماتهم.

العدد 1105 - 01/5/2024