صورتان للجسد والعقل

تنمو الأشجار بصمت، متحملة البرد والصقيع، وتشق الورود الطرية الأرض الجافة وتخرج إلى النور، رافعة رؤوسها نحو النجوم وشمس الصباح، وتحمل الغيوم الثلوج والمطر دون أن تتذمر أو تتعب، وتمدنا الشمس بدفئها وضوئها بصمت ومحبة.

كل ذلك يحدث دون أن نسمع من الأشجار والورود والغيوم والشمس أي صوت أو همسة.

إن الأعمال المفيدة، والإبداعات الرائعة تحدث وتولد دون ضجيج أو تطبيل وتزمير، تولد كنور الفجر، وتعطي كما تعطي الورود عطرها، والنجوم بريقها، والينابيع مياهها العذبة، من دون أن تنتظر مقابلاً من أحد.

قد يثرثر البعض، ويصرخ ويزعق لأنهم عاجزون عن قول أي شيء مبدع أو مفيد. وما أرخص الكلام إذا كان ثرثرة تخنق بدخانها الصدور، وتعمي العيون! وما أغلى الصمت وأعظمه إذا عبر عن أشياء ومواضيع ومعانٍ يعجز الكلام عن التعبير عنها أو الوصول إلى أعماقها!

الصمت صفة رائعة من صفات الحكماء والمبدعين العارفين، فإذا حدث أن تكلم أحد أولئك العظماء، فإنه يوجز كلام ثلاث ساعات في دقيقة، ويجمع محصول سنة كاملة في يوم.

إن الكلام صورة العقل، وسيف اللسان. ومن يعرف كيف يتكلم قد يعرف أيضاً متى يجب عليه أن يتوقف عن الكلام، (وربما كلمة سلبت نعمة، وجلبت نقمة، ورب أخرى فعلت في الضمائر فعل السيوف والحراب في الأجساد).

إن العاقل ينظر دائماً إلى ما قيل، لا إلى مَن قال، والمبدع الحقيقي هو ذاك الذي يعطيك معاني كثيرة في ألفاظ قليلة، والثرثار مَن يُضجرك بمعانٍ قليلة في ألفاظ كثيرة.

وكثرة الكلام عن الطعام لا يملأ المعدة طعاماً، والرجل الرخيص الفارغ كالبالون المعبأ بالهواء، لا يرتفع إلا بفراغه الداخلي.

إن كل فعل صغير، لا يمكن أن يصدر إلا كل شيء فارغ وخاوٍ. وقامات بعض الأشخاص العالية قد تشبه إلى حد كبير قامات أشجار الحور: مرتفعة في أجسادها، منخفضة في ثمرها، ولا تصلح إلا حطباً للأفران والمواقد.

بعض الناس قادر على الارتفاع بوعيه وبخياله ليرى أبعد من المكان الذي يقيم فيه، ولا يحدث ذلك إلا لقلة قليلة من البشر. وبعضهم مهما ارتفع فوق السلالم والصخور العالية لن يرى أبعد من أنفه.

وقد يسكن القلاع ما لا يليق بسمعة القلاع وشموخها، وقد يحمل الكثير من الناس الذهب والمال، وتراهم يحومون حول المزابل وحاويات القمامة، يحملون الذهب ويعتلفون التبن والشعير.

حين ندخل المعرفة والثقافة والعلم الممزوج بالتواضع والمحبة والسلام، حين ندخل تلك العناصر إلينا نلتمع ونتوهج ونضيء. مَثَلُنا في ذلك كمَثَلِ ساقية نديرها على الحقل فينبت القمح وتكبر البذرة لتصبح وردة، وتتغذى الجذور من تلك الساقية لترفع مياهها إلى أعلى غصن في الشجرة.

(وكلما ارتفع الشريف تواضع، وكلما ارتفع الوضيع تكبر، فلا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، وإن أشد العلماء تواضعاً أكثرهم علماً، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماءً).

العدد 1105 - 01/5/2024